[زيارة قبر الرسول]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يحرم السفر لزيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم، أو على الأصح زيارته فى قبره، على رأس زيارة القبور استحبابا. وقد عقد القسطلانى فى المواهب اللدنية فصلا خاصا بها، كما عقد الشيخ السمهودى فى كتابه " وفاء الوفا " فصلا خاصا بها أيضا، أورد فيه أحاديث كثيرة قال الذهبى عنها: طرقها لينة يقوى بعضها بعضا، وليس فى رواتها متهم بالكذب.
نقل القاضى عياض أن السفر بقصد الزيارة غايته مسجد المدينة لمجاورته القبر الشريف، وقصد الزائر الحلول فيه لتعظيم من حل بتلك البقعة، كما لو كان حيا، وليس القصد تعظيم بقعة القبر لعينها بل من حل فيها.
إن زيارته صلى الله عليه وسلم زيارة لمسجده الذى ورد فى فضله قوله: " صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " وزيارة قبور الأنبياء والصالحين بما فيها من التبرك إلى جانب ما ذكر، مستحبة كما قال الإمام الغزالى فى كتابه " الإحياء " والتبرك فى حد ذاته غير ممنوع، ولكن قد تكون له مظاهر لا يوافق عليها الدين، منها:
١ - الطواف حول القبر، وهو مكروه لما فيه من التشبه بالطواف حول البيت الحرام.
٢ - التمسح بالقبر وتقبيله للتبرك، فقد قال فيه الإمام الغزالى:
وليس من السنة أن يمس الجدار ولا أن يقبله، بل الوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام. وعن أحمد بن حنبل فى ذلك روايتان. ففى " خلاصة الوفا " ما نصه:
وفى كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبى عن الرجل يمس قبر النبى صلى الله عليه وسلم يتبرك به ويقبله ويفعل بالمنبر مثل ذلك، رجاء ثواب الله تعالى، فقال: لا بأس به. قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبى عبد الله -يعنى أحمد بن حبل -: قبر النبى صلى الله عليه وسلم يمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. ولعل رواية الجواز خاصة بالتبرك بالمنبر لا بالقبر، فقد جاء فى " الإحياء " للغزالى عن التبرك بالآثار النبوية:
ويستحب أن يضع يده على الرمانة السفلى التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده عليها عند الخطبة. وجاء عن أحمد بن حنبل منقولا عن ابن عمر قال ابن تيمية فى كتابه "الصراط المستقيم ":
ورخص أحمد وغيره فى التمسح بالمنبر والرمانة التى هى موضع مقعد النبى صلى الله عليه وسلم ويده ولم يرخص فى التمسح بقبره، وقد حكى بعض أصحابنا رواية عنه فى مسح قبره، لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبر يدعو له، والفرق بين الموضعين ظاهر. وصح فى البخارى أن عبد الله بن سلام كان يتبرك بالقدح الذى شرب منه النبى @ وبالمكان الذى صلى فيه.
٣ - الدعاء عند القبر، وهذا الدعاء يجب أن يكون الاتجاه فيه إلى الله تعالى، لأنه هو وحده الذى يملك النفع والضر، ولا يجوز الاتجاه به إلى صاحب القبر مهما كانت منزلته، أما التوسل والاستشفاع به عند الله فقد مر بيان حكمه.
ودعاء الله عند زيارة هذه الأضرحة قال جماعة: إنه أرجى للقبول، لما يصاحبه من روحانية يحس بها الداعى وهو بجوار رجل صالح يحبه ويحترمه، وقال آخرون: ليس للدعاء عنده ميزة على الدعاء فى غير هذا المكان. ومن هولاء ابن تيمية حيث قال: إن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجائها فى غير هذا الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحاب ولا التابعين، ولا من أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء الصالحين المتقدمين انتهى. لكن ليس هذا الكلام دليلا على منعه، وقد تكون هناك وجهة للمنع وهى الاحتياط وسد الذريعة لدعاء صاحب القبر بدل دعاء الله أو معه.
هذا، وفى الدعاء عند زيارة النبى صلى الله عليه وسلم فى قبره أثيرت مسألة الجهة التى يتجه إليها الداعى، هل هى قبلة الصلاة أو هى القبر الشريف؟ روى القاضى عياض فى كتابه "الشفا فى التعرف بحقوق المصطفى " ما جاء عن الإمام مالك بن أنس لما ناظره أبو جعفر المنصور فى المسجد النبوى، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك فى هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال {لا ترفعوا أصواتكم فون صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات: ٢، ومدح قوما فقال {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} الحجرات: ٣،. وذم قوما فقال {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} الحجرات: ٤. وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:
ولمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله، قال الله تعالى {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} النساء: ٦٤.
وابن تيمية يكذب هذه الرواية. ورد الزرقانى فى شرحه للمواهب اللدنية للقسطلانى على ابن تيمية بأنها مروية عن ثقات ليس فيهم وضَّاع ولا كذاب، ثم يرد عليه ما ادعاه من كراهية مالك لاستقبال قبر النبى صلى الله عليه وسلم عند الدعاء بأن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر واستقباله، مع مس القبر بيده. ويقول: وإلى هذا ذهب الشافعى والجمهور، ونقل عن أبى حنيفة. قال ابن الهمام: وما نقل عنه أنه يستقبل القبلة مردود بما روى عن ابن عمر: من السنة أن يستقبل القبر المكرم، ويجعل ظهره للقبلة، وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة، وقول الكرمانى: مذهبه خلافه ليس بشىء، لأنه حى، ومن بأتى الحى إنما يتوجه إليه. وصرح النووى فى كتابه "الأذكار " بذلك. وقد أشير إلى شىء من ذلك فى موضع التوسل، من هذا البيان.
هذا، ومع استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين يجب التنبه إلى ما جاء من النهى عن اتخاذها مساجد وعيدا، فقد وردت فى ذلك نصوص كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وقوله " اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وقوله " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبرى عيدا، وصلوا علىَّ، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم ".
واتخاذ القبور مساجد يعنى التوجه بالعبادة اليها وإلى من فيها، وذلك شي لي، فالعبادة لله وحده، وهو معنى جعل القبر وثنا يعبد.
والمراد بالمسجد هنا موضع العبادة بالصلاة وغيرها، واتخاذها عيدا يقصد به التقرب إلى الله عندها فى المواسم وفى مواعيد معينة شأن الأعياد فى ذلك.
وقال جماعة: إن هذا الحديث ينهى عن التقصير فى قبره وهجره وعدم زيارته إلا فى مواسم كالأعياد، فهو يحث على مداومة زيارتها. هذه وجهات نظر مختلفة فى فهم الحديث.
جاء فى " خلاصة الوفا للسمهودى ": أن هذا الحديث قيل عندما رأى رواية الحسن بن الحسن أو على بن الحسين -رجلا يحرص كل يوم على زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم ويبالغ فى الدنو منه، وقد كره مالك ذلك ممن لم يقدم من سفر، وجاء فيه أيضا: قال الحافظ المنذرى فى حديث " لا تجعلوا قبرى عيدا " يحتمل أن يكون حثا على كثرة الزيارة وألا يهمل حتى لا يزار إلا فى بعض الأوقات كالعيد ويؤيده قوله " لا تجعلوا بيوتكم قبورا " أى لا تتركوا الصلاة فيها. قال السبكى: ويحتمل أن يكون المراد: لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، أو لا يتخذ كالعيد فى العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغيره مما يعمل فى الأعياد، بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام، ثم ينصرف عنه.
ومهما يكن من شىء فإن اتخاذ قبور الأنبياء ومثلهم الصالحون للتقرب هو لصلتها بمن فيها والتبرك بهم -كما قدمنا-وإن كانت العبادة لله وحده، وكان بعض الصحابة كعبد الله ابن أم مكتوم يحرص أن يصلى النبى @ فى بيته ليتخذه مسجدا، وابن عمر كان يتتبع مواضعه عليه الصلاة والسلام وآثاره، جاء فى صحيح البخارى عن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلى فيها، ويحدث أن أباه - عبد الله بن عمر- كان يصلى فيها، وأنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم يصلى فى تلك الأمكنة. قال موسى: وحدثنى نافع أن ابن عمر كان يصلى فى تلك الأمكنة. وقد رخص أحمد ابن حنبل فى ذلك -كما قال ابن تيمية-ولكن كره أن يتخذ ذلك عيدا للناس يعتادونه، استنادا إلى ما روى أن عمر رأى جماعة ابتدروا مكانا يصلون فيه لأن النبى صلى الله عليه وسلم صلى فيه، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له الصلاة فيه فليصل، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض. فقد نهى عن التزام ذلك واتخاذه موسما يعتادونه، أما القليل العارض غير المقصود فلا بأس والتبرك فى حدوده المعقولة-كما قلنا -لا مانع منه، فقد كان الصحابة يتبركون بآثار النبى صلى الله عليه وسلم، جاء فى صحيح البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما فى يده من الورِق - الفضة-ثم كان فى يد أبى بكر بعده، ثم كان فى يد عمر، ثم كان فى يد عثمان حتى وقع فى بئر "أريس "، وكان نقشه " محمد رسول الله " وفى بعض الروايات أنه مكث فى يد عثمان ست سنوات، واجتهدوا فى العثور عليه فى البئر فلم يفلحوا. وبئر " أريس " بجوار مسجد قباء ويعرف باسم "بئر الخاتم ".
وجاء فى البخارى أيضا أن الزبير بن العوام كانت له عنزة طعن بها عبيدة بن سعيد بن العاص يوم بدر، فسأله النبى صلى الله عليه وسلم إياها، فأعطاها له، ولما قبض أخذها، ثم سألها إياه أبو بكر ومن بعده عمر وعثمان وعلى.
والعنزه كالحربة.
وكذلك جاء فى البخارى أن عمر رضى الله عنه لم يقطع الشجرة التى كانت عندها بيعة الرضوان إلا لاختلاف الناس بعدها فيها وفى مكانها.
تكمله: -جاء فى فتوى الشيخ عبد المجيد سليم بتاريخ ٢٢ من يونية سنة ١٩٤٠ ما ملخصه: أن ابن تيمية منع دفن الميت فى المسجد وقال فى إحدى فتاويه: إنه لا يجوز دفن ميت فى مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غير، إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدا، والعلة فى المنع هى عدم اتخاذه ذريعة للصلاة إلى القبر.
وجاء عن ابن القيم فى "زاد المعاد ": أن الإمام أحمد وغيره نص على أنه إذا دفن الميت فى المسجد نبش، وقال ابن تيمية: لا يجتمع فى دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق.
وقال النووى فى شرح المهذب: اتفقت نصوص الشافعى والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهورا بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث، قال الشافعى والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحا أو غيره قال الحافظ أبو موسى: قال الإمام الزعفرانى رحمه الله: ولا يصلى إلى قبر ولا عنده تبركا به ولا إعظاما له، للأحاديث انتهى.
وأعدل الأقوال أن الصلاة إذا كانت تعظيما للقبر فهى حرام وباطلة لأن ذلك شرك، أما إذا خلت من التعظيم فهى صحيحة مع الكراهة إن كان القبر أمام المصلى، أما إن كان خلفه أو عن يمينه أو عن يساره فلا كراهة