للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بين الفتوى والقضاء]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

بعض الأحكام الشرعية قد تصدر أحيانا من جهات متعددة، وقد يكون الحكم فى المسألة الواحدة مختلفا من جهة إلى أخرى، فأى الجهات نصدق؟ وهل يجب الالتزام بالفتوى؟

الجواب

كانت الأحكام الشرعية سهلة المأخذ فى صدر الإِسلام، إما من القرآن وإما من السنة. فكان القرآن يجيب على الأسئلة وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجيب على ما يوجه إليه من أسئلة، وكان الصحابة والتابعون من بعدهم يعرفون الأحكام ويعلِّمون من لم يعرفها من الذين لم تتيسر لهم معرفتها مباشرة من الكتاب والسنة.

والمفروض فيمن يجهل حكما شرعيًّا أن يسأل عنه من يعرفه، والمفروض أيضا فيمن يعلم أن يعلِّم من لا يعلم، والنصوص فى ذلك معروفة.

ومن الأحكام الشرعية ما هو موضع اتفاق لا يختلف فيه اثنان، كصلاة الظهر أربع ركعات، ومنها ما فيه اختلاف لعدم ورود النص الصريح الواضح فيه، وقام المجتهدون بمحاولة معرفته من المصادر الأساسية حسب القواعد المعروفة للاستنباط. وذلك كقراءة الفاتحة خلف الإِمام. وفى هذا النوع قد تختلف الآراء، ويمكن لأى إنسان أن يأخذ بأى رأى منها دون حرج بعيدا عن التلفيق الذى تتتبع فيه الرخص ويُسْلِمُ إلى حكم فى المسألة لا يقول به أحد من المجتهدين كالزواج بغير صداق ولا ولى ولا شهود.

وكان فى الصحابة مجتهدون تختلف أنظارهم فى المسألة الواحدة، وكذلك كان فى التابعين مثلهم، وكان الاختلاف محدودا، ثم كثر بتقدم الزمن وكثرة الحوادث التى لم يرد فيها نص وليست لها نظائر سابقة يقاس عليها إن توافرت عوامل الصحة للقياس، وبانتشار العلماء فى الأقطار كان بعض الأقطار يميل إلى رأى العالم البارز فيها، وحدث فى بعض الأقطار أن اختار الحاكم فيها رأيا من آراء العلماء ليكون القضاء والفتوى على أساسه، وجاءت القاعدة التى قررها الأصوليون وهى "حكم الحاكم يرفع الخلاف" فطبقت فى بعض البلاد على المؤسسات الرسمية، وتركت لغيرها الحرية فى اتباع أى رأى من الآراء الاجتهادية واختياره للإجابة على الأسئلة التى توجه إليها. فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم كانت السلطات الثلاثة المعروفة حديثا فى يده عليه الصلاة والسلام، وهى السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ثم فصلت بعد ذلك بتطور النظم، ومن السلطة التشريعية كان منصب الإِفتاء، ومن القضائية كان منصب القضاء. وظهرت الصفة الرسمية لهذين المنصبين فى الدولة الإِسلامية فى عهد السلطان سليمان القانونى سنة ٩٢٦ هـ (١٥٢٠م) ونهض بأمور الدنيا والدين، ولما ضعفت الدولة العثمانية ظهر فى مصر نظام الامتياز ونشأت المحاكم المختلطة سنة ١٨٧٥ م، وصدرت اللائحة الشرعية سنة ١٨٨٠ م، وجرى نص المادة "٢٥" منها بأن المحاكم الشرعية هى المختصة بنظر مواد الأحوال الشخصية وما يتفرع عنها، وكذا فى مواد القتل " ما يسمى الآن بالقانون الجنائى " ولذلك كان عرض الأحكام على "المفتى" واجبا، ثم جاءت المحاكم الأهلية سنة ١٨٨٣ م التى صنعها الاستعمار، فضعف شأن المحاكم الشرعية واقتصرت على الأحوال الشخصية فقط.

كان الجامع الأزهر الشريف هو المرجع لمعرفة الأحكام الشرعية عند الحاجة إليها، فكانت المحاكم تطلب من شيخه الرأى فى المسألة الدينية ليستنير به القاضى فى الحكم، وصدر قرار رسمى بمنصب الإِفتاء مع منصب مشيخة الأزهر ثم أضيف منصب الإِفتاء إلى وزارة العدل فكان يختار المفتى من كبار القضاة ومن أعضاء المحكمة العليا الشرعية بالذات، ثم ألغى القضاء الشرعى سنة ١٩٥٥ م، ومع ذلك بقى منصب المفتى إلى الآن، وحصرت مهمته الرسمية فى أمرين: إثبات أوائل الشهور العربية وبخاصة ما فيها مواسم، وأخذ الرأى فى الإعدام بالقصاص بعد إجراءات المحاكمة، ورأيه فى الأمر الأول ملزم كما كان رأى المحكمة العليا الشرعية قبل إلغائها ملزما، ورأيه فى الأمر الثانى استشارى غير ملزم.

وآراؤه فى المسائل الأخرى -بعد إلغاء الاحتفال بالمحمل وبوفاء النيل- ليست رسمية، وبالتالى ليست ملزمة، فهى كرأى أى عالم من علماء الدين، فى المسائل الفرعية والجزئية والمحلية أما المسائل الكبرى والقضايا الهامة التى تعم العالم الإِسلامى فالمرجع فيها هو شيخ الأزهر بوصفه رئيسا لمجمع البحوث الإِسلامية حسب القانون الأخير رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١م.

العلاقة بين الإِفتاء والقضاء:

قال الخبراء: إن هناك فرقا بين الإِفتاء والقضاء من جهتين، الأولى أن الفتوى لا تتعدى أن تكون إخبارا عن الله تعالى لمجرد بيان الحكم، وليس فيها إلزام بهذا الحكم، أما القضاء فهو إلى جانب الإخبار عن الله تعالى ببيان الحكم، فيه إلزام بهذا الحكم، وللقاضى حق إقامة الحدود والقصاص. وله الحبس والتعزير عند عدم الامتثال.

والثانية أن كل ما يتأتى فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى، يعنى كل ما فيه قضاء يمكن أن يكون فيه فتوى، وليس العكس، يعنى ليس كل ما فيه فتوى يمكن أن يكون فيه قضاء، فالأحكام الشرعية قسمان، قسم يقبل القضاء مع الفتوى كمسائل المعاملات والأحوال الشخصية فى الزواج والطلاق وما يتعلق بهما، وقسم لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات فليس للقاضى أن يحكم بصحة الصلاة أو بطلانها.

وذلك إلى جانب أن القضاء يقوم على خصومة يستمع فيها القاضى إلى الدعوى وأدلتها، بخلاف الفتوى فليس لها ذلك، إذ هى واقعة يطلب صاحبها حكم الشرع فيها.

ثم قال الخبراء: قد تكون الفتوى ملزمة إذا التزم المستفتى بالعمل بها، أو شرع فى تنفيذ الحكم الذى كشفته الفتوى، أو اطمأن قلبه إلى صحتها، أو لم يجد إلا مفتيا واحدا، فلو وجد أكثر من مفت وتوافقت الفتويان لزم العمل بها، وإن اختلفتا فإن استبان له الحق فى إحداهما لزمه العمل بها، وإلا كان عليه العمل بفتوى من يطمئن إليه علما ودينا.

بعد هذا أقول للسائل: إن أى فتوى من عالم موثوق به توافق أى مذهب من المذاهب الفقهية المعروفة يجوز الأخذ بها، أيا كانت وظيفة العالم، كما يجوز له عدم الأخذ بها لأنها غير ملزمة إلا فى الأحوال التى سبق ذكرها، وذلك فيما عدا ما يصدر من المفتى الرسمى بخصوص مواعيد المناسبات الدينية التى كانت من اختصاص المحكمة العليا الشرعية، فذلك قضاء أو يشبهه، ويمكن الرجوع إلى الفتوى الخاصة بأن اختلافهم رحمة

<<  <  ج: ص:  >  >>