ما حكم الدين فيمن يسافر ويترك زوجته مدة طويلة، وبخاصة إذا كانت شابة، هل تتحمل هذا البعد أو تطلب الفراق منه؟
الجواب
لا شك أن من أهم مقاصد الزواج تنظيم نشاط الغريزة الجنسية، الذى يكون من آثاره عفة الزوج والزوجة عن الحرام، والذرية التى تتربى فى ظل الأسرة المستقرة، فكما أن له حقا فى اتصاله بها كذلك هى لها حق فى الاتصال به، وإن كان الحياء يكفها عن المطالبة به بطريق مباشر فى غالب الأحيان، فهى مثله مخلوق بشرى تتحرك فيه الغريزة، والزواج هو الفرصة المشروعة لتلبية ندائها، ومن هنا لم يرض النبى صلى الله عليه وسلم عمن عزم ألا يتزوج، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص الذى صرفته عبادته عن حق زوجته، وعن أبى الدرداء الذى ترك زوجته مكتئبة بملابسها المبتذلة، لانشغاله بصيام النهار وقيام الليل، وكل ذلك وردت به الأحاديث الصحيحة.
إن كلا من الزوجين حين يبتعد أحدهما عن الآخر يحس بالفراغ وينتابه القلق ويتعطش للاطمئنان على نصفه الاخر، ويغذى هذا الشعور أمران:
أحدهما يحتاجه الجسد، والآخر يحتاجه القلب، وإذا طال أمد البعد قوى ألم الفراق، وربما أورث مرضا أو أمراضا، وعند طلب العلاج قد يكون الزلل إن لم يكن هناك عاصم من دين وحصانة من أخلاق؟ وقد جاء فى المأثور أن عمر رضى الله عنه سمع -وهو يتفقد أحوال رعيته ليلا-زوجة تنشد شعرا تشكو فيه بُعْدَ زوجها عنها لغيابه مع المجاهدين، وتضمن شعرها تمسكها بدينها وبوفائها لزوجها، ولولا ذلك لهان عليها بعده، وذلك بآخر يؤنسها فى غيبة الزوج.
فرق عمر لحالها، وقرر لكل غائب أمدا يعود بعده إلى أهله. ولكن هل لهذا الإعفاف حد أو ميقات؟ الأقوال فى ذلك كثيرة يقوم أكثرها على الاجتهاد. لكن الأوفق أن يراعى فى ذلك حال الزوج والزوجة، من وجود الداعى إليه والقدرة عليه وعدم المانع منه، فقد امتنع النبى صلى الله عليه وسلم عن نسائه شهرا، وخيرهن بين البقاء معه والفراق، وينبغى ألا تزيد فترة البعد على أربعة أشهر، وهى المدة التى ضربها الإسلام لِلْمولى من امرأته، أى الذى يحلف ألا يقربها، قال تعالى {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وان عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} البقرة: ٢٢٦، ٢٢٧، فإنه يطالب بعد هذه المدة بأحد أمرين:
الفىء أى الرجوع عن حلفه، فيباشر زوجته، أو الطلاق. بل جعل أبو حنيفة الشهور الأربعة أجلا لوقوع الطلاق، تطلق الزوجة بمجرد انقضائها إن لم يرجع إليها زوجها.
إن بعد الزوج عن زوجته -حتى لو وافقت عليه حياء أو مشاركة فى كسب يفيدهما معا-يختلف فى أثره عليها، ولا تساوى فيه الشابة مع غيرها، ولا المتدينة مع غيرها، ولا من تعيش تحت رعاية أبويها مع من تعيش وحدها دون رقيب، وإذا كنت أنصح الزوجة بتحمل بعض الآلام لقاء ما يعانيه الزوج أيضا من بعد عنها فيه مصلحتهما معا، فإنى أيضا أنصح الزوج بألا يتمادى فى البعد، فإن الذى ينفقه حين يعود إليها فى فترات قريبة سيوفر لها ولأولاده سعادة نفسية وعصمة خلقية لا توفرها المادة التى سافر من أجلها، فالواجب هو الموازنة بين الكسبين، وشرف الإنسان أغلى من كل شىء فى هذه الحياة، وإبعاد الشبه والظنون عن كل منهما يجب أن يعمل له حسابه الكبير.
ولئن كان عمر رضى الله عنه بعد سؤاله حفصة أم المؤمنين بنته قد جعل أجل الغياب عن الزوجة أربعة أشهر (مصنف عبد الرزاق وتفسير للقرطبى "ج ٣ ص ١٠٨ والسيوطى فى تاريخ الخلقاء ص ٩٦ وابن الجوزى فى سيرة عمر ص ٥٩) فإن ذلك كان مراعى فيه العرف والطبيعة إذ ذاك، أما وقد تغيرت الأعراف واختلفت الطباع، فيجب أن تراعى المصلحة فى تقدير هذه المدة، وبخاصة بعد سهولة المواصلات وتعدد وسائلها.
ومهما يكن من شىء فإن الشابة إذا خافت الفتنة على نفسها بسبب غياب زوجها فلها الحق فى رفع أمرها إلى القضاء لإجراء اللازم نحو عودته أو تطليقها، حفاظا على الأعراض، ومنعا للفساد، فالإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار