[الأحياء والأموات]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هناك كلام كثير حول العلاقة بين الأحياء والأموات،من حيث الإحساس بهم واطلاعهم على أحوالهم ووصول الثواب لهم نريد توضيحا لهذه العلاقة على ضوء القرآن والسنة؟
الجواب
هناك مسائل كثر الكلام فيها بما يتصل بالعلاقة بين الأحياء والأموات نذكر أهمها فيما يلى:
١ - عرض الأعمال على الرسول والأموات:
روى البزار بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم: " حياتى خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتى خيرا لكم، تعرض علىَّ أعمالكم، فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت شرا استغفرت لكم ".
وأخرج أحمد والحكيم الترمذى فى " نوادر الأصول " وابن منده حديث " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشايركم من الأموات، فإن رأوا خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ". وأخرج مثله الطيالسى فى مسنده. وجاء عن الحكيم الترمذى فى نوادره " إن الأعمال تعرض على الله يومى الإثنين والخميس، وعلى الأنبياء والأولياء يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم " وروى البيهقى فى " شعب الإيمان " حديث " اتقوا الله فى إخوانكم من أهل القبور، فان أعمالكم تعرض عليهم " وأورد ابن القيم فى كتابه "الروح " أثرا يدل على علم الميت بما يحصل من الحى.
وكل ذلك لا يثبت عقيدة، فمن لم يصدق فلا يكفر، كما أنه لا يوجد دليل قوى يمنع تصديق هذه الأخبار.
٢ - سماع الموتى للأحياء:
إن سماع الأنبياء والشهداء لمن يسلِّم عليهم فى قبورهم أمر-يسهل التصديق به مادامت الحياة قد ثبتت لمم، وبخاصة أن هذا السماع ممكن لغيرهم، بل دل الدليل عليه، ويستوى فى ذلك المؤمنون وغير المؤمنين، لما يأتى:
١ - جاء فى الصحيح أن الميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه وهو يسمع قرع نعالهم يجيئه الملكان ليسألاه.
٢ - وجاء فى الصحيح أيضا نداء النبى صلى الله عليه وسلم لقتلى المشركين فى بدر بعد إلقائهم فى القليب، وقوله لهم: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ... فقال عمر رضى الله عنه: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال " والذى بعثنى بالحق ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يستطيعون جوابا ".
٣ - وفى الصحيح أيضا " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " قال النووى فى شرح صحيح مسلم: معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم. وإلى هذا ذهب الطبرى، قال القاضى عياض: وهو أولى الأقوال، واحتجوا له بأن النبى صلى الله عليه وسلم زجر امرأة عن البكاء على ابنها وقال: " إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم ".
٤ - شرع النبى صلى الله عليه وسلم لأمته السلام على أهل القبور بمثل " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على ذلك.
٥ - حديث " إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلَّم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام ". ويأتى حكمه فى المسألة التالية:
بهذا وبغيره من الآثار الكثيرة التى ذكرها ابن القيم فى كتاب الروح يكون سماع الأموات للأحياء ممكنا، وقد أنكرت السيدة عائشة رضى الله عنها سماع أهل القليب لنداء النبى صلى الله عليه وسلم، وظن جماعة أن ذلك ينسحب على كل الموتى من الكفار وغيرهم، ورد هذا بأن إنكارها لسماع الكفار هو الإنكار الوارد فى قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى} الروم: ٥٢، وقوله: {وما أنت بمسمع من فى القبور} فاطر: ٢٢،. فالمراد به سماع القبول والإيمان، حيث شبه الله الكفار الأحياء بالأموات، لا من حيث انعدام الإدراك والحواس، بل من حيث عدم قبولهم الهدى والإيمان. لأن الميت حين يبلغ حد الغرغرة لا ينفعه الأيمان لو آمن، فالسماع الثابت فى الأحاديث الصحيحة سماع الحاسة، والسماع المنفى فى الآيتين سماع القبول، ولذلك جاء بعد قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى} قوله تعالى {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا} فأثبت للمؤمنين سماع القبول.
ومما يؤكد أن عائشة رضى الله عنها نفت سماع القبول عن الكفار لا سماع الحس أنها هى التى روت حديث النبى صلى الله عليه وسلم " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد السلام عليه حتى يقوم " وقيل إنها نفت سماع الكفار لنداء النبى صلى الله عليه وسلم وأثبتت علمهم به فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنهم الآن ليعلمون أن ما قلت حق، والعلم يستلزم السماع ولا ينافيه. لكن قد يرد بأن علمهم بما قال الرسول لا يستلزم سماعهم له، لأنهم علموا ذلك بمعاينة العقاب المعد لهم.
ولا يرد على سماع الميت ما قاله الأحناف من أن الميت لا يسمع:
لو حلف الإنسان لا يكلم شخصا فمات هذا الشخص وكلمه ميتا لا يحنث، لا يرد هذا لأن الإيمان مبنية على العرف، فلا يلزم منه نفى حقيقة السماع، كما قالوا فيمن حلف لا يأكل اللحم فأكل السمك لا يحنث، مع أن الله سماه لحما طريا فى قوله: {وهو الذى سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا} النحل: ١٤، وذلك جريا على العرف.
وقد يقال: إن سماع الموتى للأحياء من خصوصيات النبى صلى الله عليه وسلم، لكن يرد هذا بعدم وجود الدليل على الاختصاص.
وقال ابن تيمية فى كتاب " الانتصار للإمام أحمد ": إنكار عائشة سماع أهل القليب معذورة فيه لعدم بلوغها النص، وغيرها لا يكون معذورا مثلها، لأن هذه المسألة صارت معلومة من الدين بالضرورة.
٣ - إحساس الميت بالزائر وعلمه بمن يموت:
قال ابن تيمية فى الفتاوى: مسألة فى الأحياء إذا زاروا الأموات هل يعلم الأموات بزيارتهم، وهل يعلمون بالميت إذا مات من أقاربهم أو غيره أم لا؟ الجواب، نعم، قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات، كما روى ابن المبارك عن أبى أيوب الأنصارى قال: إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يتلقون البشير فى الدنيا، فيقبلون عليه ويسألونه فيقول بعضهم لبعض: انظروا أخاكم يستريح فإنه كان فى كرب شديد، قال فيقبلون عليه ويسألونه ما فعل فلان، ما فعلت فلانة، هل تزوجت. الحديث.
وأما علم الميت بالحى إذا زاره ففى حديث ابن عباس رضى الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يحمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.
وقال ابن تيمية أيضا فى موضع آخر من فتاويه: إن الميت يسمع خفق نعال المشيعين حين يولون عنه كما ثبت فى الصحيحين،وبعد سياق عدة أحاديث قال: تبين من هذه النصوص أن الميت يسمع فى الجملة كلام الحى، ولا يجب أن يكون السمع له دائما، وذكر أن روحه تعاد إلى بدنه فى ذلك الوقت، وتعاد فى غير ذلك أيضا، وجاء فى عدة آثار أن الأرواح تكون فى أفنية القبور انتهى.
ورويت أخبار تدل على أن روح الميت تكون فى يد الملك ينظر إلى جسده كيف يغسل، وكيف يكفن، وكيف يشيَّع، ويقال له على سريره: اسمع ثناء الناس عليك.
وأخرج أحمد والحاكم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كنت أدخل البيت فأضع ثوبى وأقول: إنما هو أبى وزوجى، فلما دفن عمر ما دخلته إلا وأنا مشدودة على ثيابى حياء من عمر. وجاء فى صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه قال فى مرض موته: إذا دفنتمونى فشنوا على التراب شنا، وأقيموا عند قبرى قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، اَنس بكم؟ أنظر ماذا أراجع رسل ربى.
٤ - تزاور الموتى:
فى صحيح مسلم " إذا وَلِي أحدكم أخاه فليحسن كفنه " قيل: إن العفة فيه تزاور الموتى وتباهيهم بالأكفان، كما نص عليه فى أحاديث أخرى منها ما أخرجه الترمذىَ وابن ماجه والبيهقى "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه فانهم يتزاورون فى قبورهم " وقال: ابن تيمية فى فتاويه إنهم يتزاورون، سواء أكانت المدائن، متقاربة فى الدنيا أم متباعدة.
وقال الفقهاء بتحسين الأكفان لهذه العلة، وللسيوطى كتاب فى ذلك عنوانه " شرح الصدور " وقال ابن القيم فى كتاب الروح: إن الحى يرى الميت فى منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلمه الحى فيصادف خبره كما أخبر فى الماضى والمستقبل.
٥ - تصرف الموتى بأمر الله:
قال السيوطى فى شرح الصدور: قال الحافظ ابن حجر فى فتاواه إن أرواح المؤمنين فى عليين، وأرواح الكفار- فى سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوى لا يشبه الاتصال فى الحياة الدنيا، بل أشبه شىء به حال النائم وإن كان هو أشد حالا من حال النائم اتصالا فالأرواح مأذون لها فى التصرف وتأوى إلى محلها من عليين أو سجين وإن قيل إنها عند أفنية القبور. وأورد السيوطى ما أخرجه ابن عساكر عن رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبى طالب بعد استشهاده، وما أخرجه الحاكم عن رده السلام على جعفر حيث رآه فى مجلسه مع أسماء بنت عميس ومعه جبريل وميكائيل يسلمون على النبى صلى الله عليه وسلم، وحكى له جعفر ما حدث فى يوم استشهاده، وأن النبى صلى الله عليه وسلم أعلن ما رآه للناس على المنبر.
٦ - اطلاع الأحياء على حال أهل القبور:
أورد صاحب المنحة الوهبية حكايات عن رؤية بعض الناس أمواتا يصلون فى قبورهم، وأن بعضهم سمع قراءة القرآن من قبر ثابت البنانى، وسمع بعضهم من أحد القبور قراءة سورة " الملك " ولما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك قال " هى المانعة، هى المنجية تنجى من عذاب القبر" هذا الحديث رواه الترمذى عن ابن عباس وقال إنه حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط -.
وثبت فى الصحيحين قول النبى صلى الله عليه وسلم " لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع " كما صح أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذَّب من فيهما بسبب النميمة وعدم الاستبراء من البول، وأنه وضع جريدا على القبرين عسى. أن يخفف الله عنهما العذاب.
وجاء فى " الروح " لابن القيم وفى " شرح الصدور " للسيوطى، وفى " أهوال القبور " لابن رجب ما يفيد أن رجلا رأى رجلا عند " بدر " يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حتى يغيب فى الأرض، وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال " ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة ".
وبعد:
فكل ما ذكر عن أحوال القبور جر إليه الكلام عن الوسيلة والتوسل، وهو عرض لما قيل عنها، ونحن لا نلزم بتصديق شىء منها إلا ما يثبت بطريق قوى. ولا داعى للجدال فيها، فإن ما لدينا من الثابت القوى كثير، وأحوال الدنيا التى يجب أن نستعد بها إلى الآخرة كثيرة، فلنهتم بمعرفتها وتطبيقها فذلك خير وأجدى.
وهل يسمع أو يشعر الميت بما يسور حوله أثناء الجنازة؟ .
جاء فى كتاب " مشارق الأنوار " للعدوى ص ٢١: أن الميت يعرف من يغسله ويحمله ومن يكفنه ومن يدليه فى حفرته، وأن روح الميت فى يد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل وكيف يكفن، ويقال له - وهو على سريره -اسمع ثناء الناس عليك.وجاء فيه أن الميت يرى ما يصنع أهله، ولو قدر على الكلام لنهاهم عن العويل والصراخ.
وكل ذلك وردت به أحاديث أخرجها أحمد وابن أبى الدنيا والطبرانى وابن منده وأبو نعيم وأبو داود، وقد حكم على بعض منها بالضعف.
ومعلوم أن العقائد لا تثبت إلا بالدليل القطعى من الكتاب والسنة.
وأحوال الموتى من الغيب الذى يعلمه الله وحده، ولا يطلعُ عليه أحدا إلا من ارتضاه، ولا يجب علينا الإيمان إلا بما ورد من طريق صحيح.
والأخبار المروية فى سماع الميت كلام المشيعين لم ترق إلى هذه الدرجة. فلا نجزم بالنفى ولا بالإثبات، حيث إن ذلك ممكن ولم يرد ما يمنعه، وحيث إن ما أثبتته لم يكن بطريق الجزم. فمن صدق ذلك فهو حر، ولا يجوز أن يفرض رأيه على غيره، ومن كذب فلا يكفر