للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المراهنات من قبيل القمار المحرم شرعا]

المفتي

جاد الحق على جاد الحق.

ربيع الآخر ١٤٠١ هجرية - ١٩ فبراير ١٩٨١ م

المبادئ

١ - اتفقت كلمة المسلمين على أن الميسر وكل قمار محرم شرعا بالقرآن الكريم.

إلا ما أباحه الشرع فيما دل الدليل على الإذن به.

٢ - الرهان والقمار فوق أنهما من المحرمات باعتبارهما من أفراد الميسر.

محرمان كذلك باعتبارهما من نوعيات أكل أموال الناس بالباطل.

٣ - قوله تعالى {فرهان مقبوضة} الآية من الرهن بمعنى احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى من ثمنها وليست من باب الرهان.

٤ - المراهنات حسبما تجرى فى عصرنا.

ليست لغرض مشروع ولا بالشروط التى نص عليها الشارع فى الأحاديث الشريفة، وهى بذلك داخلة بواقعها وشروطها فى أنواع القمار المحرم شرعا

السؤال

بالطلب المقيد وقد جاء به - هل الرهان والمقامرة، والرهان على الخيول المتسابقة، يتفق مع مبادىء الشريعة الإسلامية أم لا

الجواب

قال الله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} البقرة ١٨٨ وقال سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما.

ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا} النساء ٢٩، ٣٠ وقال {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون.

إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} المائدة ٩٠، ٩١، قال أهل الفقه بلغة العرب.

إن اسم الميسر فى أصل اللغة إنما هو للتجزئة، وكل ما جزأته فقد يسرته، ويقال للجازر الياسر، لأنه يجرىء الجزور، والميسر الجزور نفسه إذا تجزأ، وكانوا ينحرون جزروا ويجعلونه أقساما يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم.

وقالوا إن اشتقاق لفظ الميسر من اليسر بمعنى السهولة - لأنه أخذ الرجل مال غيره بيسر وسهوله من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره، والذى يؤخذ من هذا أن اشتقاق لفظ (الميسر) إما من يسر إذا وجب، أو من اليسر بمعنى السهولة، لأنه كسب بلا مشقة، أو من اليسار وهو الغنى، لأنه سبب للربح، أو من اليسر بمعنى التجزئة والاقتسام.

قال أهل اللغة كل شىء فيه قمار فهو من الميسر، ويقال قامر الرجل مقامرة وقمارا، راهنه، وهو التقامر والقمار والمقامرة، وتقامروا.

لعبوا القمار ويقال فى اللغة الرهان والمراهنة المخاطرة، وقد راهنه وهم يتراهنون، وراهنت فلانا على كذا مراهنة، خاطرته، والمراهنة والرهان المسابقة على الخيل وغير ذلك.

أما الرهن فهو ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه.

(لسان العرب لابن منظور فى مادتى قمر ورهن، وأحكام القرآن للجصاص ج - ١ ص ٣٨٨ وتفسير المنار ج - ٢ ص ٣٢٤) وقد اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على أن الميسر وكل قمار محرم بالآية الكريمة (الآية ٩٠ من سورة المائدة) المرقومة أخيرا إلا ما أباحه الشرع على ما سيأتى بيانه وإنما كان تحريم الميسر والقمار بعمومه لما فيه من المضار النفسية، إذ يعمل على إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، والقعود عن طلب الرزق والسعى فى سبيله انتظارا لقدومه باسباب موهومة، وإضعاف القوة العقلية.

بترك الأعمال المفيدة فى طرق الكسب الطبيعية.

وإهمال المقامرين للزراعة والصناعة والتجارة التى هى أركان العمران.

ولما فيه من المضار المالية، إذ يؤدى الميسر والقمار إلى تخريب البيوت والإفجأة بالتحول من الغنى إلى الفقر.

والحوادث الكثيرة فى المجتمع شاهدة على ذلك.

ولقد نقل (أحكام القرآن للجصاص ج - ٢ ص ٥٦٦) المفسرون عن ابن عباس وقتادة ومعاوية بن صالح وعطاء وطاووس ومجاهد أن (الميسر) القمار.

وأن كل ما كان من باب القمار فهو ميسر بهذه الآية.

ولقد سئل (أحكام القرآن للجصاص ج - ١ ص ٢٨٨) الإمام على بن أبى طالب عن رجل قال لرجل إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا، فقال على كرم الله وجهه هذا قمار ولم يجزه.

ويحرم الميسر والقمار كذلك باعتبارهما أكلا لأموال الناس بالباطل.

المنهى عنه فى القرآن (الآية ١٨٨ من سورة البقرة و ٢٩ من سورة النساء) ذلك لأن أكل الأموال بالباطل كما عبر القرآن يتأتى فى صورتين إحداهما أخذ المال بطريق محضور وبرضاء صاحبه كالربا والقمار، والصورة الأخرى أخذ المال بغير رضاء صاحبه وعلى وجه القسر والظلم والخفية، كالغصب والسرقة والخيانة.

وشهادة الزور واليمين الكاذبة ونحو هذا مما حرم الله سبحانه.

فالمراد من النهى عن أكل أموال الناس بالباطل.

ما يعم الأخذ والاستيلاء وغيرهما عن طريق غير مشروع، وعبر القرآن بالأكل، لأنه أهم أغراض الانتفاع بالمال، وبين فى الآية الأولى إحدى وسائل الكسب الحلال، وهى التجارة القائمة عن تراض بين المتعاملين.

ويلحق بالتجارة كل أسباب التملك التى أباحها الشارع، كالإرث والهبة والصدقة وتملك المنافع بالإجارة والإعارة، والمراد بكلمة (الباطل) فى هاتين الآيتين - والله أعلم - ما كان بدون ماقبلة شىء حقيقى، حيث حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابل حقيقى يعتد به ورضاء من يؤخذ منه، وكذلك إنفاقه فى غير وجه حقيقى نافع.

ويدخل فى هذا التعدى على الناس بأخذ المنفعة بدون مقابل أو إنقاص الأجر المسمى، أو أجر المثل والغش والاحتيال والتدليس والقمار والمراهنات.

لما كان ذلك كان الرهان والقمار فوق أنهما من المحرمات باعتبارهما من أفراد الميسر محرمين كذلك، باعتبارهما من نوعيات أكل أموال الناس بالباطل، أى بلا مقابل حقيقى.

أما قوله تعالى فى سورة البقرة بعد آية المداينة {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه} البقرة ٢٨٣، أما هذه فليست من هذا الباب، إذ الرهان فى هذه الآية (الجامع لحكام القرآن للقرطبى ج - ٢ ص ٤٠٨ - ٤١٠) من الرهن.

بمعنى احتباس العين وثيقة بالحق، ليستوفى الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذها من الغريم.

ومما تقدم يتقرر أن كل ما كان من تعامل على سبيل المخاطرة، بين شخصين أو أشخاص، بحيث يغنم بعضهم فى تقدير، ويغرم من ماله على تقدير آخر.

قمار. ثم هل الرهان على الخيول المتسابقة من القمار المحرم الذى يستفاد مما سلف - وحسبما جاء فى كتب المفسرين والفقهاء - أن الرهان والقمار من الميسر المحرم إلا ما استثناه الشارع وأجازه لدوافع مشروعة.

فالرهان بمال، إنما يكون مشروعا، فيما دل الدليل على الإذن به كالتسابق بالخيل والإبل والرمى والأقدام وفى العلوم، وقد شرع هذا وأجيز للحاجة إليه لتعلم الفروسية وإعداد الخيل للحرب، وللخبرة والمهارة فى الرمى وللتفقه فى الدين وغيره من العلوم النافعة للإنسام فى حياته.

والسند فى إجازة التسابق فى هذا حديث (نيل الأوطار للشوكانى ج - ٨ ص ٧٧ وما بعدها فى أبواب السبق والرمى) أبى هريرة رضى الله عنه الذى رواه الخمسة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا سبق إلا من خف أو نصل أو حافر) ولم يذكر فيه ابن ماجه.

(أو نصل) أى فى الخيل والإبل والسلاح. وحديث (المرجع السابق) ابن عمر (أن النبى صلى الله عليه وسلم سبق بالخيل وراهن) وفى لفظ (سبق بين الخيل وأعطى السابق) رواهما أحمد - وحديث (المرجع السابق) أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال (من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فهو قمار) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

هذه الأحاديث وغيرها مما ورد فى هذا الباب.

استدل بها الفقهاء على جواز السباق على جعل (جائزة) (أحكام القرآن للجصاص ج - ١ ص ٣٨٨ والفتوى رقم ٣٢١ سجل ٤٦) فى الأحوال الآتية الأولى أن يكون الجعل أو الجائزة مقررة من غير المتسابقين كالإمام (ولى الأمر) وذلك بلا خلاف من أحد - وإن كانت الجائزة أو الجعل من أحد المتسابقين جاز ذلك عند جمهور الفقهاء.

الثانية إذا كان السباق بين اثنين، وكانت الجائزة مدفوعة من أحدهما دون الآخر، بأن يقول أحدهما إن سبق فرسك فرسى فلك منى مبلغ كذا جائزة، وإن سبق فرسى فرسك فلا شىء لى عليك.

الثالثة أن تكون الجائزة من كل من المتسابقين.

ويدخلان بينهما ثالثا ويقولان للثالث إن سبقتنا فالمال لك، وإن سبقناك فلا شىء لنا عليك، مع بقاء الشرط الذى شرطاه بينهما، وهو أيهما سبق كان له على صاحبه جعل (جائزة) باق على حاله، فإن غلبهما الثالث أخذ المالين.

وإن غلباه فلا شىء لهما عليه. ويأخذ أيهما غلب المشروط له من صاحبه وأما إذا كان المال المشروط جائزة من كل منهما ولم يدخلا هذا الثالث فهو من القمار المحرم.

وقد حكى عن الإمام مالك أنه لا يجيز أن يكون العوض (الجائزة) من غير الإمام (ولى الأمر) .

وفيما تجز المسابقة فيه خلاف بين الفقهاء لكن الشوكانى (المرجع السابق وسبل السلام للصنعانى ص ١٠٤ ج - ٤) قد نقل عن القرطبى قوله لا خلاف فى جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الرمى بالسهام واستعمال الأسلحة، لما فى ذلك من التدريب على الجرى.

وإذ كان ذلك وكان الرهان على الخيول المتسابقة.

إنما تؤدى جوائزه من حصيلة تذاكر المراهنات، وكان إقدام حائزى هذه التذاكر على شرائها.

إنما هو للمراهنة والكسب بهذا الطريق فقط، وليس إقدامهم على الاشتراك فيها تبرعا، لإنماء روح الفروسية المشروعة، كما أن هذه المسابقات لا تجرى لتدريب الخيول المتسابقة على فنون الفروسية التى تستعمل فى حفظ أمن البلاد داخليا وخارجيا، وإنما أعدت تلك الخيول لهذه المراهنات.

لما كان ذلك كان إجراء هذه المسابقة محرما، وكانت هذه المراهنات حسبما تجرى فى عصرنا ليست لغرض مشروع، ولا بالشروط التى نص عليها الشارع فى الأحاديث الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وسم، وكان كل ذلك داخلا - بواقعه وشروطه - فى أنواع القمار المحرم شرعا.

لأنه من قبيل الميسر الذى سماه الله سبحانه فى الآية الكريمة (رجس من عمل الشيطان) المائدة ٩٠، وقد امتد هذا الحكم ليشمل كل تعامل يدخل تحت هذا الاسم، بالاعتبارات المشروحة التى أهمها المخاطرة والحصول على مال بدون مقابل حقيقى.

ويؤكد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (نيل الوطار للشوكانى ج - ٨ ص ٨٠ و ٨١) قال (الخيل ثلاثة فرس يربطه الرجل فى سبيل الله، فثمنه أجر وركوبه أجر، وعاريته أجر وعلفه أجر، وفرس يغالق (المغالقة المراهنة كما فى القاموس) فيه الرجل ويراهن، فثمنه وزر (الوزر الذهب والاثم) وعلفه وزر وركوبه وزر، وفرس (بمعنى طلب انتاجها بالولادة) للبطنة.

فعسى أن يكون سدادا من الفقر إن شاء الله) .

وإذا كان الحفاظ على المال وإنفاقه فى الوجوه المشروعة من الضروريات فى الإسلام، كانت المقامرة به فى الرهان والقمار أيا كانت صورهما من الأمور المحرمة قطعا، فقد عنى الإسلام بتوجيه المسلمين إلى كسب المال بالطرق المباحة الحلال، وإلى إنفاقه كذلك فيما يفيد الإنسان، وكانت حكمة بالغة تلك التى أشار إليها النص القرآن الكريم {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} المائدة ٩١، هذه الحكمة تجريم لهذا العمل لما يترتب عليه من المفاسد والمآسى التى تقضى إلى إضاعة المال وتخريب البيوت العامرة، وكم دفع القمار محترفيه إلى ارتكاب صنوف الجرائم كالسرقة والاختلاس بل والانتحار.

والامراء فى أن الرهان على الخيول المتسابقة يحمل هذا الشر والمستطير، وان كل ما جاء عن طريقه يسار موقوت لا خير فيه ولا دوام له، كما أفاد الحديث الشريف والأخير حيث نص صراحة على تحريم اتخاذ الخيول للمراهنات.

وبعد.

فإن الله سائل كل إنسان عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.

كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى رواه ابن مسعود رضى الله عنه قال (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس عم عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم) (صحيح الترمذى ج - ٩ ص ٢٥٢) والله سبحانه وتعالى أعلم

<<  <  ج: ص:  >  >>