[تحويل القبلة وموقف اليهود منها]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما هى المراحل التى تم بها تحديد القبلة واستقرت بها على الوضع الأخير؟
الجواب
روى أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة رضى اللَّه عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التى هدانا اللَّه إليها وضلوا عنها، وعلى القبلة التى هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين ".
على عادة اليهود فى الأثرة والأنانية النابعة من العنصرية الجامحة المعروفة فيهم كانوا يحبون أن يكون كل مجد لهم، سواء فى ذلك المجد الدينى والدنيوى، كما جعل اللَّه فيهم الأنبياء وجعلهم ملوكا.
قال تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا واَتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} المائدة:
٢٠، ولما سمعوا بظهور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فى مكة كانوا يستفتحون به على أهل المدينة، لكنهم أبوا الانضمام إليه، لأنه من نسل عمهم إسماعيل دون أبيهم إسحاق.
وقد حدث أن الله سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستقبال بيت المقدس فى الصلاة، وظل على ذلك نحو سنة ونصف السنة بالمدينة، ثم صرفه اللَّه عن هذه القبلة إلى استقبال الكعبة، فقال اليهود: اشتاق محمد إلى بلد أبيه بمكة، وهو يريد أن يرضى قومه قريشا ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى يأتى آخر الزمان.
وهذا القول منهم يدل على أنهم انتهازيون لا يجرون إلا وراء المصلحة، دون اعتبار للعقائد والقيم، فهم كفروا بالرسول لمجرد أنه حول وجهه - بأمر ربه -إلى البيت الحرام، ناسين أن الأرض كلها لله، وأن الجهات جميعها واحدة بالنسبة لوجود اللَّه واطلاعه على عباده والتوجه إليه بالطاعة، قال تعالى {وللَّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللَّه} البقرة: ١١٥، وقال فى حقهم {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، قل للَّه المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} البقرة: ١٤٢.
وندد الله بهم فى كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على الرغم من الأخبار المبشرة به فقال: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} البقرة: ١٤٤، وقد أيأسه اللَّه من إيمانهم به ما دامت قبلته للصلاة غير قبلتهم فقال {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض} البقرة: ١٤٥، ومن هنا انقطع أملهم فى ضم محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فجاهروه بالعداوة، وكانت له معهم التحامات وقصص مذكورة فى كتب التاريخ.
إن بيت المقدس لم يتخذه بنو إسرائيل قبلة تبعا لوحى من اللَّه، بل باختيار منهم على ما يذكره المحققون، والحديث المذكور يدل على أن الصخرة التى يستقبلونها لم يؤمروا بها من اللَّه بعينها، فإن القبلة الحقيقية هى أول بيت وضع للناس فى مكة، روى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود فى التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله على بنى إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم.
وفى البغوى عند تفسير قوله تعالى {واجعلوا بيوتكم قبلة} يونس: ٨٧، روى ابن جريج عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه وبه قطع الزمخشرى والبيضاوى، قال النسفى فى تفسير هذه الآية: اجعلوا بيوتكم مساجد متوجهة إلى القبلة وهى الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة.
وكما ضلوا عن القبلة ضلوا عن الجمعة، لأن الله فرض عليهم يوما من الأسبوع وكَلَه إلى اختيارهم، فاختلفوا ولم يهتدوا إلى الجمعة، قال الطبرى عن مجاهد فى قوله تعالى {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} النحل:
١٢٤، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه، وروى ابن أبى حاتم عن السدى التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فقال: إن اللَّه فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، فجعله عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم فى قوله {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} البقرة: ٥٨، فغيروا وبدلوا.
واستطرادًا للحديث فى شأن القبلة وتحويلها أتناول الموضوع فى عدة نقاط، تنويرًا للأذهان وعونا على الوصول إلى الحقيقة فى فهم حكمة التشريع:
١ -كل أمة من الأمم لها مكان مقدس تتعبد فيه بكل أنواع العبادة من صلاة وحج وذبح وغير ذلك، قال تعالى {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} الحج: ٦٧، وقال تعالى {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} الحج: ٣٤، وسواء أكان هذا الجعَلْ تَشريعا من الله أراده ورضيه لعباده، أم جعْلَ تكوين لا يشترط أن يكون مرضيا عنه، كما فى قوله تعالى {كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم} الأنعام: ١٠٨، فإن لكل جماعة من الناس مكانا مقدسا يتقربون فيه إلى إلههم، ومن التقرب التوجه إليه عند الدعاء والصلاة.
والوثنيون كانوا يتوجهون إلى أصنامهم فى الأرض، أو إلى الكواكب فى السماء، كما توجه المصريون إلى الشمس فى بعض عهودهم فى الدعاء والمناجاة، وكما توجه البابليون إلى النجوم على ما حكاه القرآن الكريم فى محاجة إبراهيم لهم فى سورة الأنعام، حيث رأى كوكبا ثم رأى القمر ثم رأى الشمس وافترض أنها هى الإله الذى يعبدونه فلما غابت ألزمهم الحجة بأن الإله لا يجوز أن يغيب، ثم بنوا بيوتا رمزية - لآلهتهم يعبدونها فيها عند اختفائها وقت غروبها، فكانت البيوت قبلتهم ومنسكهم الذى يرتضون.
٢ -أول بيت وضع للعبادة هو بيت اللَّه الحرام فى مكة " الكعبة " قال تعالى {إن أول بيت وضع للناس. للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين} آل عمران:
٩٦، وكما تقول الروايات إنه موضوع من أيام آدم عليه السلام، وكانت الأنبياء تحج إليه، وكان دور إبراهيم عليه السلام إبراز معالمه التى عفى عليها الزمن أو جرفتها السيول على ما يفهم من التعبير بالرفع فى قوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} البقرة: ١٢٧، وقوله تعالى {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} الحج: ٢٦، أى البيت المعهود سابقا فى التاريخ، أو الذى سيبنى بعد، ذلك جائز محتمل.
والحديث الصحيح ورد فى أن أول بيت وضع فى الأرض هو الكعبة ثم المسجد الأقصى، وبينهما أربعون سنة، فإن كان الوضع يعنى الاختيار للعبادة - وهو الظاهر-كان ذلك الاختيار من اللَّه موجودا قبل إبراهيم بالنسبة للكعبة وقبل سليمان وداود بالنسبة للمسجد الأقصى.
وإن كان الوضع يعنى الإقامة والبناء فإن المسافة بين بناء إبراهيم للكعبة وبين بناء المسجد الأقصى وهى أربعون سنة لا تكون إلا إذا قيل: إن الأنبياء بعد إبراهيم شرعوا فى بناء المسجد الأقصى على عهد يعقوب بن إسحاق كما قال بعض الباحثين، ولم يتم إلا فى عهد سليمان الذى كان أبوه داود معتزما بناءه، لكن الله لم يوفقه لذلك، وادخره لابنه سليمان كما تحكى التوراة.
وقد تقدم فى ذلك ما نقله البغوى عن ابن جريج عن ابن عباس وما قرره المفسرون من أن الكعبة كانت قبلة موسى ومن معه، وقال أبو داود فى الناسخ والمنسوخ فى قوله تعالى {إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة} قال: أعلم قبلته فلم يبعث نبى إلا وقبلته البيت وهذا القول قواه الحافظ العلائى فقال فى تذكرته: الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم كما دلت عليه الآثار.
قال بعضهم وهو الأصح، ويؤكد هذا الرأى حديث حسد اليهود لنا إذ هدانا اللَّه إلى القبلة وضلوا عنها، فقد كانت الكعبة قبلتهم لكنهم لم يهتدوا إليها..
غير أن ابن العربى وتلميذه السهيلى اختارا أن قبلة الأنبياء هى بيت المقدس، وصححه بعضهم وقال إنه المعروف، لكن هذا يمكن أن يحمل على أن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء بعد بناء الهيكل فى عهد سليمان، ارتضوها بعد أن ضلوا عن الكعبة، وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أول الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس وهو ما يزال فى مكة على ما سيأتى بيانه، وقد تقدم أنهم كانوا يستقبلون الصخرة التى كان عليها تابوت السكينة حتى بنى المسجد الأقصى.
ونظرا إلى أن المسيحية مكملة لليهودية جاءت مصلحة لليهود وداعية للعودة إلى أصولها الحقيقية كانت قبلتها هى قبلة اليهود فى المسجد الأقصى.
٣-فرضت الصلاة فى الإسلام أولا بمكة، واستقرت خمس صلوات ليلة الإسراء قبل الهجرة بحوالى سنتين أو أكثر، فإلى أية قبلة كان يتجه المصلون بمكة؟ قيل: لم تكن هناك قبلة معينة، فالجهات كلها قبلة على ما فهمه البعض من قوله تعالى {وللَّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللَّه} البقرة:١١٥، وإن كان هناك ميل إلى التوجه إلى الكعبة لأنها البيت المقدس عند العرب، وهو أثر سيدنا إبراهيم الذى قال اللَّه له فى إحدى السور المكية {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} النحل: ١٢٣، على ما يفيده عموم اللفظ، وكما حكت السيرة أن النبى صلى الله عليه وسلم اختار التحنث فى غار حراء، لأنه يشرف على الكعبة.
وقيل: إن قبلة المسلمين فى مكة كانت الكعبة أولا، لقوله تعالى {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} البقرة: ١٤٣، أى حولناك فى المدينة من بيت المقدس إلى الكعبة وهى القبلة التى كنت عليها من قبل، فهذا نص على أن القبلة فى مكة كانت الكعبة، لكن ذلك كان لفترة، ويدل عليه ما أخرجه الطبرى عن ابن جريج: صلى النبى صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجه إلى الكعبة.
وقيل: إن القبلة فى مكة كانت بيت المقدس أولا، لحديث ابن عباس رضى اللَّه عنهما الذى رواه أحمد: كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، لكن هل يدل هذا على أن بيت المقدس كان هو القبلة الأولى فى مكة وكان النبى يحب أن يستقبل معه الكعبة، فيجعلها بينه وبين بيت المقدس ليجمع بين القبلتين، أو أن بيت المقدس كان قبلة لاحقة بعد أن كانت هى الكعبة؟ ذلك كله جائز.
ولعل من التوفيق القريب بين الأحاديث التى يتضارب ظاهرها أن يقال: إن النبى صلى الله عليه وسلم صلى بمكة أولا إلى الكعبة، ثم صرف عنها إلى بيت المقدس ثلاث حجج، فكان يحب أن يجمع بينهما على النحو المذكور، ولما هاجر أمره الله بالاستمرار فى استقبال بين المقدس، وكان يشتاق لاستقبال الكعبة نحو سنة ونصف السنة فوجه بعد ذلك إليها.
٤ -هل كانت قبلته فى مكة [الكعبة أو بيت المقدس] بوحى من اللَّه أو باجتهاد منه؟ أما استقبال الكعبة فقيل إنه بوحى، على ما يفهم من قوله تعالى {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها} فالتى كان عليها هى الكعبة، لكن هل كان هذا بأمر من اللَّه أم باجتهاد من الرسول أقره عليه؟ لم يرد فى ذلك نص واضح صريح، وقيل إنه باجتهاد على ما سبق بيانه من اقتفائه أثر أبيه إبراهيم، وتقديسه للبيت الذى يقدسه كل العرب ولتحرى النظر إليه فى خلوته بغار حراء.
وأما استقبال بيت المقدس فى مكة، فقيل بوحى، على ما تفيده رواية الطبرى عن ابن جريح أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى أولا بمكة إلى القبلة، ثم صرفه الله إلى بيت المقدس. وقيل باجتهاد كما قال القاضى عياض: الذى ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، وحكى الوجهين الماوردى فى " الحاوى ".
٥ -والصلاة التى صلاها الرسول عند مقدمه إلى المدينة متوجها إلى بيت المقدس، هل كانت بوحى أم باجتهاد؟ .
ذلك راجع إلى الكلام فى استقبال بيت المقدس بمكة، فهو مستصحب للقبلة فى مهجره.
١ -الراجح أنه كان بوحى لما رواه ابن جرير الطبرى عن ابن عباس، قال:
لما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثرهم يستقبلون بيت المقدس أمره اللَّه تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم، مع أنه كان لأمر ربه، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، وروى الطبرى أيضا عن ابن عباس قال: إنما أحب النبى أن يتحول إلى الكعبة، فكان يدعو ربه (كما نصحه بذلك جبريل عندما قال له: وددت أن اللَّه صرف وجهى عن قبلة يهود، فقال له جبريل:
إنما أنا عبد، فادع ربك وسله) وكان ينظر إلى السماء فنزلت {قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} البقرة: ١٤٤، وهذا ما عليه الجمهور كما قال القرطبى، ولحديث البراء بن عازب عند البخارى فى كتاب الإيمان: أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، فاستقباله لبيت المقدس مع شوقه لقبلة إبراهيم دليل على أنه بأمر من اللَّه.
ب - وقيل إن استقباله لبيت المقدس بالمدينة كان باجتهاد منه، كما قال الحسن البصرى، وكما قال الطبرى: كان محمد مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعا فى إيمان اليهود، لكن يرده سؤاله لجبريل، إذ لو كان مخيرا لاختار الكعبة دون حاجة إلى سؤال جبريل أن يصرف إليها.
٦ -كم من الزمن صلى النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلى بيت المقدس؟ جاءت الروايات مختلفة فى ذلك، وهى كلها ليست من كلام الرسول، بل من كلام الصحابة، فقيل ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر، وقد جاء ذلك فى روايتين للبخارى ومسلم عن البراء بن عازب على ما سيأتى، وقيل تسعة عشر شهرا، وقيل بضعة عشر بدون تحديد لمقدار البضع، والاختلاف راجع إلى الخلاف فى تعيين الشهر الذى حولت فيه القبلة، مقيسا بشهر الهجرة إلى المدينة، وبحساب جمله من أيام الشهر شهرا، أو بغير ذلك من الاعتبارات.
٧-فى أى شهر وفى أى يوم حولت القبلة؟ هنا لك أقوال:
أ-قيل إنها حولت فى منتصف شهر رجب من السنة الثانية، وكان ذلك يوم الاثنين، وقد رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح، قال الواقدى: وهذا أثبت، قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، وقاله ابن إسحاق.
ب - وقيل إن التحويل كان فى شهر جمادى الآخرة، كما رواه الزهرى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال أبو جعفر النحاس فى كتابه " الناسخ والمنسوخ ": وهو أولاها بالصواب، لأن الذى قال به أجل، ولأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فى شهر ربيع الأول، فإذا صرف اَخر جمادى الآخرة إلى الكعبة صار ذلك ستة عشر شهرا كما قال ابن عباس وأيضا إذا صلى إلى الكعبة فى جمادى الآخرة فقد صلى إليها فيما بعدها.
ج -وقيل فى نصف شعبان وفى يوم الثلاثاء منه، قاله محمد بن حبيب، وجزم به فى الروضة، وقاله الواقدى.
٨ -ما هى الصلاة التى صلاها النبى صلى الله عليه وسلم بقبلتين وما هى أول صلاة كاملة للقبلة الجديدة؟ .
كان النبى صلى الله عليه وسلم يزور أم بشر بن معرور بعد موته، فلما حان وقت صلاة الظهر صلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر بتحويل القبلة، فتحول فى ركوع الركعة الثالثة، وسمى هذا المسجد مسجد القبلتين، لأن التحويل نزل فيه أولا، وكان فى بنى سلمة -بكسر اللام فى شرح الزرقانى على المواهب، وضبطت فى تفسير القرطبى بفتحها - وهى أول صلاة صلاها، وهو الأثبت كما قال الواقدى، وكانت هذه الصلاة هى الظهر على ما رواه النسائى من رواية أبى سعيد بن المعلى، وكذا عند الطبرانى والبزار من حديث أنس فهذا الحديث يدل على أن مكان التحويل هو مسجد بنى سلمة " مسجد القبلتين " وأن الصلاة هى الظهر قال ابن سعد: صلى النبى صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر فى مسجده النبوى بالمسلمين.
وقال بعضهم إن الصلاة هى العصر، مستدلين برواية البراء بن عازب فى البخاري فى كتاب الإيمان: أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر- أى متوجها إلى الكعبة، لكن هذا لا يدل على أنها صليت بقبلتين، والأقرب أنها بقبلة واحدة هى الكعبة، وكانت أولى صلاة تامة بعد التحويل إلى الكعبة، ويبقى ادعاء أن صلاة الظهر هى التى أديت بقبلتين باقيا دون معارض.
قال ابن حجر فى كتاب الإيمان: التحقيق أن أول صلاة صلاها فى، بنى سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور هى الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوى هى العصر.
٩ - ما هى الصلاة التى صلاها المسلمون الذين لم يكونوا مع الرسول - بقبلتين، وأين كانت؟ إن خبر التحويل وصل كل جماعة فى مواعيد مختلفة، ولعل عددا من الجماعات وقع منهم صلاة لقبلتين، قد تكون هى العصر وقد تكون غيرها، ومن الثابت ما يلى:
١ -صلاة العصر كانت بقبلتين وكانت فى بنى حارثة، دليله حديث البراء بن عازب: صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم"إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا-وفى رواية له سبعة عشر شهرا-حتى نزلت الآية التى فى البقرة {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فنزلت بعدما صلى النبى، فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهو يصلون، فحدثهم فولوا وجوههم قبل البيت، رواه البخارى ومسلم.
وقوله: " بعدما صلى " فسره الشراح بأنه دخل فى الصلاة، لا أنه انتهى منها، وقالوا: إنها صلاة الظهر وقد صلى منها ركعتين، وقال بعضهم إنها صلاة العصر، كانت فى مسجد بنى سلمة، والرجل الذى نقل الخبر قيل: اسمه عبَّاد بن بشر بن قيظى " القرطبى-سيقول السفهاء " كما رواه ابن منده وابن أبى خيثمة، وقيل: اسمه عَبَّاد بن نَهيك.
والناس الذين أخبرهم هم بنو حارثة وكانوا يصلون العصر وعلى القول بأن الصلاة التى كان يصليها الرسول وحُوِّل فيها هى العصر يمكن أن ينقل خبرها بسرعة إلى جماعة آخرين هم بنو حارثة ما زالوا فى الصلاة، سواء أكان عباد بن بشر ناقل الخبر صلى مع النبى وهو الغالب -أم لم يصلِّ ورأى حاله فأبلغها إلى غيره.
٢ -صلاة الفجر أو الصبح كانت بقبلتين، وكانت فى " قباء " موطن بنى عمرو بن عوف، وقد نص عليها فى حديث ابن عمر: بينما الناس -بنو عمرو بن عوف -فى صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، رواه البخارى ومسلم.
والشخص الذى أخبرهم قيل: هو رجل من بنى سلمة كما يدل عليه حديث أنس الآتى وهو الأصح، واسمه عباد كما تقدم.
يقول أنس رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى نحو بيت المقدس فنزلت {قد نرى تقلب وجهك فى السماء. . .} فمر رجل من بنى سلمة وهم ركوع فى الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة، رواه مسلم غير أن رواية أنس لا تدل على أن هؤلاء كانوا فى قباء.
٣ - صلاة الظهر، فقد ذكر أبو عمرو فى " التمهيد " عن نويلة بنت أسلم - وكانت من المبايعات - قالت: كنا فى صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظى فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة، أو قال:
البيت الحرام، فتحول الرجال مكان النساء وتحول النساء مكان الرجال.
هذا، ولم يسم مسجد قباء ولا مسجد بنى حارثة بمسجد القبلتين لأن مسجد بنى سلمة هو الذى نزلت فيه أولا آية التحويل، وصليت فيه صلاة إلى جهتين كان النبى إماما فيها.
١٠-حكمة جعل القبلة إلى الشام فى المدينة فيها آراء:
أ-رأى يقول: إن ذلك تكريم من اللَّه للنبى صلى الله عليه وسلم، ليجمع له بين القبلتين، كما عده السيوطى من خصائصه التى تميز بها على الأنبياء والمرسلين، ونظهر هذه الحكمة إذا كان استقبال الشام بوحى وهو الظاهر.
ب -ورأى يقول: كان التوجه تأليفا لليهود، كما قاله أبو العالية، وقد يكون ذلك مرادا للَّه بالوحى أو مرادا للنبى باجتهاد على الخلاف فى ذلك.
ج -ورأى يقول: إن فيه تنبيها للرسول على أن المسجد الأقصى له منزلته وقداسته، فلابد من الحفاظ على هذه المنزلة والقداسة له.
١١ -حكمة تحويل القبلة فى المدينة من الشام إلى مكة فيها وجهات نظر:
أ- امتحان المؤمنين الصادقين وتمييزهم عن غيرهم، كما قال سبحانه {وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى اللَّه} البقرة: ١٤٣، كما قاله ابن عباس.
ب -تنبيه للرسول على عدم طمعه فى إيمان اليهود.
ج - العودة بالدعوة إلى أصلها، وهو عالميتها القائمة على قواعد إبراهيم، درن تمييز بين أبناء إسحاق " اليهود " وأبناء إسماعيل " العرب " {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} آل عمران: ٦٧.
د-الإيحاء بأن مكة لا بد أن تعود إلى الإسلام، ففيها قبلة المسلمين، وأن يجاهد أهلها حتى يخضع البيت للمسلمين، وبشارة بنصر الرسول على قريش واستخلاص البيت منهم، لتطهيره من الأصنام وجعل الدين خالصا لله.
هذا، ومن الحكمة العامة لتحديد قبلة الصلاة تجميع أهل الدين وتوحيد اتجاههم ومشاعرهم وتقوية الرابطة بينهم.
ومن الأحكام التى تتصل بالقبلة:
أ- أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الانصراف عن التوجه إليها فى الدعاء، فقد روى البخارى ومسلم عن أنس أن النبى قال: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فى صلاتهم " فاشتد قوله فى ذلك حتى قال "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم " ورواه مسلم عن أبى هريرة بلفظ "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء فى الصلاة أو لتخطفن أبصارهم ".
ب - عدم بصق المصلى أمامه، فقد ورد عن ابن عمر: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب يوما إذ رأى نخامة فى قبلة المسجد، فتغيظ على الناس ثم حكها، قال: وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخت به وقال " إن اللَّه عز وجل قِبَلَ وجه أحدكم إذا صلى، فلا يبصق بين يديه " رواه البخارى ومسلم.
أما تحديد اتجاه القبلة ووضع علامات تدل عليها، والصلة بين المحاريب وبينها، فسيكون له بحث آخر إن شاء الله