[حكم إقامة مأتم الأربعين]
المفتي
حسنين محمد مخلوف.
ذى الحجة ١٣٦٦ هجرية - ١٣ نوفمبر ١٩٤٧ م
المبادئ
١- إقامة مأتم الأربعين بدعة مذمومة، لا ينال منها الميت رحمة ولا ثوابا، ولا ينال منها الحى سوى المضرة، ولا أصل لها فى الدين.
٢- فيها تكرير للعزاء وهو غير مشروع، لحديث (التعزية مرة)
السؤال
ما حكم إقامة مأتم الأربعين
الجواب
(أ) أحوال الروح فى البرزخ.
١- تبقى الروح فى البرزخ بعد مفارقتها الجسد حية مدركة تسمع وتبصر، وتشعر بالنعيم والعذاب، وترد أفنية القبور، وتأوى إلى المنازل غير محددة بمكان ولا محصورة فى حيز، ولا ترى كما ترى الماديات.
٢- قد يأذن الله لها أن تتصل بالبدن كله أو بأجزائه الأصلية اتصالا برزخيا خاصا، كاتصال أشعة الشمس بالعوالم الأرضية اتصال إشراق وإمداد وقد لا يأذن لها بذلك وهذا هو مذهب أهل السنة، وبه وردت الأحاديث والآثار.
٣- تتصل بالأرواح الأخرى وتناجيها وتأنس بها، سواء أكانت أرواح أحياء أم أرواح أموات.
٤- كل ما يقال أو يؤثر عن العلماء فى معنى الروح من قبيل ذكر الأوصاف والأحوال التى هى من باب الآثار والأحكام، وليست من قبيل الكشف عن حقيقتها الذاتية، لأن ذلك مما استأثر الله بعلمه فلا تحيط به عقول البشر.
(ب) الحياة فى القبر والسؤال فيه.
١- حياة القبر ثابتة بأحاديث كثيرة بلغت حد التواتر، دلت عليها وعلى سؤال الميت فى قبره ونعيمه أو تعذيبه فيه.
٢- لا بعد ولا نكير فى كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية تعذيبا لا يقدر البشر على رؤيته.
٣- يسمع الموتى ويجيبون ويردون السلام، لحديث القليب ولحديث المرأة التى كانت تقم المسجد (تكنسه) فقد ثبت منه ردها على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقولها (قم المسجد) إجابة على سؤاله أى الأعمال وجدت أفضل ولحديث ابن عباس ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه.
٤- يسأل الميت ملكان ويجيبهما، ولا عبرة بمن ينكر ذلك.
٥- رأى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فى عذاب الروح أو نعيمها وهل هو خاص بها أم يشمل بدن الميت أيضا.
(ج) وصول ثواب جميع الطاعات للميت.
١- مذهب الحنابلة والحنفية وصول ثواب جميع الطاعات إلى الميت انية كانت أو مالية، ومن ذلك قراءة القرآن بغير أجر وإهداؤها إليه، فإن كنت بأجر فلا ثواب فيها للقارئ حتى يمكن إهداؤه إلى الميت.
٢- الاستئجار على مجرد تلاوة القرآن لم يقل به أحد من الأئمة وإنما اختلفوا فى الاستئجار على تعليمه، فأجازه المتأخرون ضرورة حفظه.
٣- الدعاء للميت ينفعه باتفاق ويصل أثره إليه، والصدقة عنه يصل أجرها إليه، للأحاديث والآثار الواردة فى ذلك، ولا يشترط فى أى منهما أن يكون من ولده.
٤ - الحج عن العاجز بموت أو عضب (المغضوب الضعيف والزمن الذى لا حراك به) جائز عند الجمهور، سواء أكان عن فرض أو نذر أوصى به الميت أم لا وبجزىء عنه.
وهذا مذهب الجمهور وعند مالك الليث لا يجوز الحج إلا عن ميت وعن حجة الفرض فقط غير أن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق.
٥- آية {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} عام مخصوص بالأحاديث الواردة فى جواز ذلك ولا تعارض بينهما.
٦- الصوم عن الميت مستحب عند الجمهور ومنهم الشافعى فى القديم، وعند بعض السلف الصالح فرضا كان الصوم أم نذرا.
وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعى فى الجديد إلى أن الولى لا يصوم عنه لا فى النذر ولا فى غيره ولكن يطعم عنه مسكينا عن كل يوم، لأنه عبادة بدنية وهى لا ينوب فيها أحد عن أحد كالصلاة.
وذهب أحمد والليث إلى أنه لا يصوم عنه إلا فى النذر فقط ويطعم فى غيره عن كل يوم مسكينا.
٧- المراد بالولى هنا هو القريب وارثا أو غير وارث، وقيل هو الوارث خاصة.
وقيل هو العصبة خاصة. وقال الحنفية إنه المتصرف فى المال ويشمل عندهم الوصى ولو أجنبيا عن الميت.
٨- هل يختص الولى بالصوم أم يقبل منه ومن غيره قيل.
وقيل لا يختص به، ويقبل ممن تبرع به ولو أجنبيا.
٩- الولى يطعم عن الميت من ثلث ماله وجوبا إن أوصى بذلك وجوازا إن لم يوص، فإن تبرع به جاز معلقا على مشيئة الله، وكان ثوابه للميت عند الحنفية، والصلاة فى ذلك كالصوم استحسانا.
١٠- لا يجوز عند الحنفية أن يصوم الولى أو يصلى عن الميت ليكون هذا قضاء عن الميت عما وجب عليه، ولكن له ولغيره أن يجعل ثواب صومه أو صلاته للميت بمثابة الصدقة، وبهذا يصل ثواب ذلك إليه، وعليه عمل المسلمين من لدن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا.
١١- قراءة سورة يس على الموتى وعلى المقابر مستحب، وتخصيصها بالقراءة لما فيها من التوصية والمعاد والبشرى بالجنة للمؤمنين، وللتخفيف عن الموتى بشرط ألا تكون بأجر عند الحنفية وابن تيمية وابن القيم.
١٢- مذهب الشافعية فى العبادات البدنية المحضة عدم وصول ثوابها إلى الميت ولو كانت تبرعا كالصلاة وتلاوة القرآن.
وهذا هو الشهور عندهم.
والمختار عند بعضهم وصول ثوابها إلى الميت لأن طلب إيصال ثوابها دعاء وهو جائز بما ليس للداعى، فيجوز بما هو له من باب أولى.
وهذا لا يختص بالقراءة بل عام فى جميع الطاعات إذا اقترنت بسؤال الله إيصال ثوابها إلى الميت، فإنه يصل إليه شأنها فى ذلك شأن كل دعاء ترجى استجابته.
١٣- قراءة القرآن عند المالكية مكروهة للموتى وأجازها المتأخرون منهم بشرط أن تخرج مخرج الدعاء للميت، فإن كانت كذلك وصل ثوابها إلى الميت قولا واحد.
١٤- رأى الإمام القرافى فى أنواع القربات أنها ثلاثة قسم لا يجوز نقله إلى غير صاحبه كالإيمان والتوحيد.
وقسم أذن الله سبحانه وتعالى فى نقله للميت كالصدقة.
وقسم اختلف فيه وهو الصيام والحج وقراءة القرآن وما شابه ذلك.
وهذا لا يصل منه شىء للميت عند مالك والشافعى ويصل ثوابه عند أبى حنيفة وأحمد، ورفع الإمام القرافى الخلاف فى لك بحصول بركة للميت بالقراءة ولا يحصل له ثوابها.
١٥- قراءة القرآن للميت لا ينبغى إهمالها، فلعل الحق هو وصول ثوابها.
لأن ذلك من الأمور الخفية، وليس الخلاف فى حكم شرعى وإنما فى أمر واقع هل هو كذلك أم لا.
(د) حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن وتعلمه.
١- الاستئجار على تلاوة القرآن أو تعليمه غير جائز عند الحنفية وكثير من السلف.
فلا تجب به أجرة ولا يجوز أخذها ولا إعطاؤها. ٢- استثناء متأخرى الحنفية جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن كان خشية ضياعه، وترغيبا فى حفظه وكان ذلك للضرورة وعليه الفتوى لذلك.
٣- قراءة القرآن بالأجر لا ثواب فيها للقارئ، وآخذ الأجرة ومعطيها آثمان وأجازها المالكية فى قول.
تأسيسا على وصول ثوابها لمن قرئت لأجله كالميت.
٤- الأفضلية بين القراءة بأجر على رأى المالكية فى قول وبين الصدقة بالنقود تختلف باختلاف مقدار الصدقة ونفعها للفقير ومال المتصدق واختلاف القراءة وما يدفع للقراء من أجر.
(هاء) حكم زيارة القبور.
١- زيارة القبور مستحبة للعظمة والاعتبار وتذكر الموت، وهى واجبة عند ابن حزم ولو فى العمر مرة.
٢- الزيارة للرجال باتفاق، وهى مكروهة للنساء، إلا إذا أمنت الفتنة وكانت للاعتبار والترحم من غير بكاء.
٣- للزيارة آداب.
منها عدم الجلوس، وأن يكون الزائر مستدبر القبلة مستقبلا الميت.
ومنها السلام على أهل القبور، ولا يمسح ولا يمس ولا يقبل قبرا، وإن يدعو عنده بما أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم ينصرف عقب ذلك.
٤- أفضل أيامها يوم الجمعة، وقيل هو ويوم قبله ويوم بعده.
(و) سنة حسنة.
١- فتوى فى الاحتفال بذكرى الأربعين نشرت الأهرام الكلمة الآتية تحت هذا العنوان فى عدد يوم الأحد التاسع من شهر رمضان سنة ١٣٦٦ (٢٧ من يوليو سنة ١٩٤٧) .
لقد ابتلانى الله بفقد الولد (توفى إلى رحمة الله فى يوم الأربعاء ٢٩ من رجب سنة ١٣٦٦ الموافق ١٨ من يونية سنة ١٩٤٧ ولدى عبد الحميد الطالب بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول) فصبرت، واقتطع من فلذة الكبد فيما تبرمت، فله الحمد على نعمة الرضا بالقضاء.
ومنه وحده المثوبة وعظيم الجزاء. وقد تساءل أصدقائى عن ليلة الأربعين فأخبرتهم أن إحياءها على النحو المتبع بدعة مذمومة لا أصل لها فى الدين.
وإنى مكتف فيها وفى غيرها من الأيام بما بينى وبين ربى من عمل يرجى ثوابه بمشيئته لمن افتقدته.
ولهم منى مع عظيم الشكر أطيب التمنيات. مفتى الديار المصرية حسنين محمد مخلوف.
٢- وعلى إثر ذلك ورد إلى السؤال الآتى فأجبت عنه بالفتوى المسجلة برقم ٣٧٧ بتاريخ ١٤ أغسطس سنة ١٩٤٧ بدار الافتاء ونشرت الأهرام خلاصتها مع السؤال فى عدد يوم الثلاثاء ١١٢ من أغسطس سنة ١٩٤٧ بالنص الآتى مأتم الأربعين سؤال لفضيلة المفتى ورده عليه.
تلقينا من صاحب التوقيع الكلمة التالية إلى فضيلة الأستاذ مفتى الديار المصرية.
أتقدم بكل تجلة واحترام إلى فضيلة الأستاذ الأكبر مفتى الديار المصرية بمناسبة فتواه الحقة فى موضوع الاحتفال بذكرى الأربعين المنشورة فى الأهرام راجيا أن يتفضل علينا بتبيان الأعمال التى يرجى ثوابها للميت، كما جاء فى كلمة فضيلته القيمة، أنى ممن اتبع فعلا السنة الحسنة التى استنها فضيلته فى عدم إحياء ليلة الأربعين رغم إجماع الناس عليها إجماعا باطلا وأنتهز هذه الفرصة فألتمس من فضيلته أن يتكرم علينا بنشر ما يجهله الناس أو يتجاهلونه من أحكام الشريعة الغراء فى المآتم، وما يجرى فيها من بدع وسخافات.
أجزل الله أجر الأستاذ الأكبر وأنزل السكينة فى قبله الحزين وأدام عليه نعمة الرضا بالقضاء، وله من الله أوفى الجزاء.
٣- رد المُفْتى.
وقد أحالت الأهرام هذا الكتاب إلى صاحب الفضيلة المفتى فرد بالكلمة التالية (ونشرت الأهرام الخلاصة المشار إليها) أما الفتوى فنصها ما يأتى إقامة مأتم الأربعين بدعة مذمومة يحرص كثير من الناس الآن على إقامة مأتم ليلة الأربعين لا يختلف عن مأتم يوم الوفاة، فيبلغون عنه فى الصحف ويقيمون له السرادقات، ويحضرون القراء وينحرون الذبائح.
ويفد المعزون فيشكر منهم من حضر ويلام من تخلف ولم يعتذر.
وتقيم السيدات بجانب ذلك مأتما آخر فى ضحوة النهار للنحيب والبكاء وتجديد الأسى والعزاء.
ولا سند لشىء من ذلك فى الشريعة الغراء، فلم يكن من هدى النبوة ولا من عمل الصحابة ولا من المأثور عن التابعين.
بل لم يكن معروفا عندنا} إلى عهد غير بعيد.
وإنما هو أمر استحدث أخيرا ابتداعا لا اتباعا وفيه من المضار ما يوجب النهى عنه.
فيه التزام عمل ممن يقتدى بهم وغيرهم، ظاهره أنه قربة وبر، حتى استقر فى أذهان العامة أنه من المشروع فى الدين وفيه إضاعة الأموال فى غير وجهها المشروع، فى حين أن الميت كثيرا ما يكون عليه ديون أو حقوق الله تعالى أو للعباد لا تتسع موارده للوفاء بها مع تكاليف هذا المأتم، وقد يكون الورثة فى أشد الحاجة إلى هذه الأموال، ومع هذا يقيمون مأتم الأربعين استحياء من الناس ودفعا للنقد، وكثيرا ما يكون فى الورثة قصر يلحقهم الضرر بتبديد أموالهم فى هذه البدعة.
وفيه مع ذلك تكرير العزاء وهو غير مشروع لحديث (التعزية مرة) لهذا وغيره من المفاسد الدينية والدنيوية أهبنا بالمسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة الذميمة التى لا ينال الميت منها رحمة أو مثوبة.
بل لا ينال الحى منها سوى المضرة إذا كان القصد مجرد التفاخر والسمعة أو دفع الملامة والمعرة.
وأن يعلموا أنه لا أصل لها فى الدين قال تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر ٧.
----- (١) أى عند جمهور المسلمين بمصر بهذه الصورة الراهنة.
(٢) كما فى نيل الأوطار للعلامة محمد بن على بن محمد الشوكانى قاضى قضاة القطر اليمانى المتوفى سنة ١٢٥٥ هجرية على منتقى الأخبار للإمام المجتهد المطلق مجد الدين أبى البركات عبد السلام ابن تيمية الموفى بحران سنة ٦٥٢ وهو جد الإمام تقى الدين أبى العباس ابن تيمية المشهور شيخ الإمام ابن القيم.
-----.
٤- ما يعمل لأجل الموتى أما الذى يعمل فى هذا الموطن لا فى خصوص الأربعين فهو ما فيه نفع للميت وثواب يرجى أن يصل إليه من غير أن يقترن به ضرر للحى أو مالا يسوغ شرعا من الأعمال.
٥- بحث فى أحوال الروح الإنسانى فى البرزخ وقيل أن نبينه نمهد له بأنه ينبغى أن يعلم أن عالم الأرواح (١) يختلف عن عالم المادة اختلافا كثيرا فى أحواله وأطواره، فالروح يسلكها الله تعالى فى البدن فى الحياة الدنيا فتوجب له حسا وحركة وعلما وإدراكا ولذة وألما ويسمى بذلك حيا.
ثم تفارقه فى الوقت المقدر أزلا لقطع علائقها به فتبطل هذه الآثار، ويفتى هيكل البدن ويصير جمادا، ويسمى عند ذلك ميتا ولكن الروح تبقى فى البرزخ {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} المؤمنون ١٠٠، وهو ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة من يوم الموت إلى يوم البعث (٢) والنشور حية مدركة تسمع وتبصر وتسبح فى ملك الله حيث أراد وقدر.
وتنصل بالأرواح الأخرى وتناجيها وتأنس بها سواء أكانت أرواح أحياء أو أرواح أموات.
وتشعر بالنعيم والعذاب واللذة والألم بحسب حالتها، وما كان لها من عمل فى الحياة الدنيا.
وترد أفنية القبور (٣) وتأوى إلى المنازل وهى فى كل ذلك لطيفة لا يحدها مكان ولا يحصرها حيز ولا ترى بالعيون والآلات كما ترى الماديات.
وقد يأذن الله لها وهى فى عالم البرزخ أن تتصل بالبدن (٤) كله أو بأجزائه الأصلية اتصالا برزخيا خاصا لا كالاتصال الدنيوى، يشبه اتصال أشعة الشمس وأضواء القمر بالعوالم الأرضية وهو اتصال إشراق وإمداد فيشعر البدن كذلك بالنعيم والعذاب ويسمع ويجيب بواسطة الروح.
وقد لا يأذن الله لها بالاتصال بالبدن فتشعر الروح بذلك كله شعورا قويا، ويستمر ذلك الشأن لها إلى ما شاء الله حتى يوم البعث والنشور.
هذا هو مذهب جمهور أهل السنة وبه وردت الأحاديث والآثار.
----- (١) الروح الإنسانى جسم نورانى لطيف مبدع من غير مادة سار فى جوهر الأعضاء سريانا يشبه سريان الماء فى النبات أو النار فى الفحم لا يتبدل ولا يتحلل وهو الحامل لصفات الكمال من العقل والفهم.
وهو الإنسان فى الحقيقة والمشار إليه بلفظ نادون الهيكل المخصوص القابل للزوال.
وإلى هذا ذهب مالك وجمهور المتكلمين والصوفية والرازى وإمام الحرمين واختاره ابن القيم وقال أنه هو الذى دل عليه الكتاب والسنة وانعقد عليه اجماع الصحابة وأقام عليه زهاء مائة دليل فى كتاب الروح - وهناك مذاهب أخرى فى معنى الروح ولك م يؤثر عن العلماء فى ذلك إنما هو من قبيل ذكر الأوصاف والأحوال التى هى من باب الآثار والأحكام لا من قبيل الكشف عن الحقيقة الذاتية لأنها مما استأثر الله بعلمه فلا تحيط به عقول البشر ولذلك لما سأل اليهود النبى صلى الله عليه وسلم عن حقيقة الروح وكنهه امتحانا له وتعجيزا لم يجبهم بها بل أجيبوا بقوله تعالى {قل الروح من أمر ربى} أى العلم بكنهه من شأنه تعالى وحده (المطالب القدسية وتفسير العلامة شهاب الدين السيد محمود الألوسى البغدادى المتوفى سنة ١٢٧٠ لقوله تعالى فى سورة الإسراء {ويسألونك عن الروح} الإسراء ٨٥، والروح لغة يذكر ويؤنث.
(٢) فى الإحياء لحجة الإسلام أبى حامد الغزالى المتوفى بطوسى سنة ٥٠٥ الحق الذى تنطق به الآيات والأخبار أن الموتى انتقال وتغير حال وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد منعمة أو معذبة ومعنى مفارقتها له انقطاع تعرفها عنه وكل ما هو وصف للروح بنفسها من إدراك وحزن وغم ونعيم، وفرح يبقى لها بعد مفارقتها للجسد وماهو وصف لها بواسطة الأعضاء كبطش باليد وسمع بالأذن وبصر بالعين يتعطل بموته إلى أن تعاد الروح إلى الجسد.
أما إدراكها المسموعات والمبصرات من غير آلة كإدراك الملائكة والجن فهو من جملة معارفها الثابتة لها بنفسها كما هو ظاهر.
(٣) فى زاد المعاد لابن المقيم أن الموتى تدنوا أرواحهم من قبورهم وتوافيها فى يوم الجمعة فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم ويسلم عليهم ويلقاهم أكثر من معرفتهم بهم فى غيره من الأيام فهو يوم تلتقى فيه الأحياء والأموات وروى أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده.
(٤) ذهب أبو محمد بن حزم الأندلسى المتوفى سنة ٤٥٦ فى كتاب المحلى إلى أنه لا مساءلة فى القبر إلا للروح وأنها لا تعود إلى الجسم بعد مفارقته إلا يوم القيامة ورد عليه العلامة ابن القيم فى كتاب الروح بما دحض حجته.
-----.
٦- الحياة فى القبر والسؤال فيه قد ورد فيها حديث سؤال القبر (١) ونعيمه وعذابه، وأن المعذب والمنعم فيه الروح والبدن معا، وحديث سماع الموتى وإجابتهم وحديث السلام على من سلم عليهم (٢) .
واستقر رأى سلف الأمة على ذلك - ولا عبرة بمن ينكره، فإن شأن الأرواح يدق ويسمو عن مدارك المحجوبين بحجب المادة.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية (ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وقد تتصل به فيحصل له معها النعيم أو العذاب) وقال فى موضع آخر (واستفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله وأحوال أهله وأصحابه فى الدنيا وأن ذلك يعرض عليه.
وجاء فى الآثار أنه يرى أيضا وأنه يدرى بما يفعل عنده فيسر بما كان حسنا ويألم بما كان قبيحا (٣) وتجتمع أرواح الموتى فينزل الأعلى إلى الأدنى لا العكس.
وقد أوضح ذلك تلميذه شيخ الإسلام ابن القيم فى كتاب (٤) الروح واستوعب هذا البحث وأفاض فى بيانه والاستدلال عليه الأستاذ الوالد رحمه الله فى كتاب المطالب القدسية فى أحكام الروح وآثارها الكونية (٥) .
(١) عن عثمان رضى الله عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل رواه أبو داود وأخرجه البزار والحاكم وصححه وفيه دليل على ثبوت حياة القبر وقد وردت بها أحاديث كثيرة بلغت فى دلاتها عليها حد التواتر ودليل على سؤال القبر.
وقد وردت به أيضا أحاديث صحيحة فى الصحيحين وغيرهما وعن النبى عليه السلام أن قوله {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} إبراهيم ٢٧، نزل فى عذاب القبر وكان من دعائه عليه السلام لمن صلى عليه صلاة الجنازة قوله (وأعذه من عذاب القبر) وقوله اللهم وقه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم اللهم ثبت عند المسألة منطقه ولا تبتله فى قبره وهل السؤال فى القبر مختص بهذه الأمة أو عام لها ولغيرها رجح الأول الحكيم الترمذى والثانى ابن القيم ومما ورد فى ذلك حديث البراء من عازب.
وهو حديث متصل الإسناد مشهور رواه جماعة عنه وأخرجه أحمد وأبو داود وجمع طرقه الدار قطنى فى مصنف مفرد.
وفى الاعتصام للإمام أبى إسحاق الشاطبى المتوفى سنة ٧٩٠ هجرية أنه لا بعد ولا نكير فى كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته.
(٢) فى الصحيحين عن أبى طلحة قال لما كان يوم بدر وظهر الرسول على مشركى قريش أمر ببضعة وعشرين من صناديدهم فألقوا فى القليب ونادى الرسول بعضهم بأسمائهم أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى وجدت ما وعد ربى حقا فقال عمر يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال والذى نفسى بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم.
وأخرج أبو الشيخ حديثا قال فيه كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد (تكنسه) فماتت فلم يعلم بها النبى صلى الله عليه وسلم فمر على قبرها وسأل عنه فأخبروه أنه قبر أم محجن التى كانت تقم المسجد.
فصلى عليه وقال أى العمل وجدت أفضل قالوا يارسول الله أتسمع قال ما أنتم بأسمع منها وذكر النبى صلى الله عليه وسلم أنها أجابته قم المسجد وأخرج ابن عبد البر بإسناد صحيح عن ابن عباس مرفوعا ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه.
وفى الصحيحين عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم واللفظ للبخارى أن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه حتى أنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان ما كنت تقول فى هذا الرجل محمد فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا فى الجنة.
قال النبى فيراهما جميعا وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس فيقال له لا دريت ولا تليت يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين أانتهى.
فالموتى يسمعون ويجيبون فى قبورهم وإليه ذهب كثير من أهل العلم - واختاره الطبرى وابن قتيبة.
وذهب آخرون إلى عدم سماع الموتى لقوله تعالى {إنك لا تسمع الموتى} النمل ٨٠، وقوله {وما أنت بمسمع من فى القبور} فاطر ٢٢، والجواب أن السماع المنفى عنهما هو سماع الانتفاع والقبول لا مطلق السماع بدليل المقابلة فى قوله تعالى {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا} النمل ٨١، أى سماع انتفاع وقبول تترتب عليه آثاره، وهذا لا ينافى السماع المثبت للموتى فى الحياة البرزخية قال الألوسى والحق أن الموتى يسمعون فى الجملة بأن يخلق الله فى بعض أجزاء الميت قوة يسمع بها متى شاء الله السلام وغيره.
أو بأن يكون السماع للروح ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك بعد مفارقتها للبدن بدون وساطة قوى فيه وحيث كان لها على الصحيح تعلق لا يعلم كنهه ولا كيفيته إلا الله تعالى بالبدن كله أو بعضه بعد الموت وهو غير التعلق الدنيوى به أجرى الله سبحانه عادته بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر وعند حمل البدن إليه وعند الغسل.
وقال الشاطبى فى الاعتصام إنه لا يصح تحكيم العادة الدنيوية المشاهدة فى مثل هذا وتحكيمها على الإطلاق فى كل شأن غير صحيح لقصورها.
وهذه شئون لا تحيط بكنهها العقول ولكنها فى متناول القدرة الإلهية الشاملة {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} يس ٨٢، (٣) انظر الإحياء وعمدة القارى شرح صحيح البخارى للإمام الحافظ قاضى القضاة بدر الدين العينى الحنفى المتوفى سنة ٨٥٥ هجرية.
(٤) هو الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن بكر الدمشقى الحنبلى المفسر النحوى الأصولى المتكلم الشهير بابن قيم الجوزية ولد سنة ٦٩١ ولازم شيخة تفى الدين ابن تيمية وتوفى فى رجب سنة ٧٥١ ومن مؤلفاته كتاب الروح وهو كتاب سلفى قيم وكتاب زاد المعاد فى هدى خير العباد (٥) هو العلامة الأصولى المنطقى البارع فى المعقول شيخ الشيوخ بالجامع الأزهر الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى المالكى الأزهرى ولد ببنى عدى فى ١٥ رمضان سنة ١٢٧٧ وتوفى بالقاهرة فى سنة ١٣٥٥.
(١١ أبريل سنة ١٩٣٦) وكتابه طبع فى سنة ١٣٥٠ بمطبعة السيد مصطفى البابى الحلبى بمصر.
-----.
٧- مذهب الحنابلة وصول ثواب جميع الطاعات للميت إذا علم هذا فالصحيح كما قال ابن تيمية أن الميت ينتفع بجميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة (أى تطوعا بلا أجر) (١) كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة ونحوها.
باتفاق الأئمة (راجع إلى العبادات المالية) وكما لو دعى له واستغفر له.
وقال ابن القيم فى كتاب الروح.
أفضل ما يهدى إلى الميت الصدقة والاستغفار والدعاء له والحج عنه، وأما قراءة القرآن وإهداؤها إليه تطوعا بغير أجر فهذا يصل إليه كما يصل إليه ثواب الصوم والحج - وقال فى موضع آخر والأولى أن ينوى عند الفعل أنها للميت، ولا يشترط التلفظ بذلك (٢) .
وقد ذكر الإمام ابن قدامة الحنبلى فى كتابه المغنى (٣) أن أية قربة فعلها الإنسان وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك بمشيئته تعالى وأنه لا خلاف بين العلماء فى الدعاء والاستغفار له والصدقة وأداء الواجبات التى تتأتى فيها النيابة لقوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} الحشر ١٠، وقوله {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} محمد ١٩، ----- (١) زدنا هذا القيد أخذا من عبارة ابن القيم الآتية ولقول ابن تيمية (ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن فى ذلك وقد قال العلماء إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له، فأى شىء يهديه إلى الميت وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح.
والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة وإنما تنازعوا فى الاستئجار على العليم بحروفه ومثل القراءة فى ذلك سائر العبادات البدنية إلا ما استثناه الفقهاء (رسالة شفاء العليل للعلامة الفقيه السيد محمد أمين الشهير بابن عابدين الحنفى فرغ من تأليفها فى الثامن من جمادى الآخرة سنة ١٢٩٩) وسيأتى للبحث بقية.
(٢) شفاء العليل.
وحاشية ابن عابدين علىالدر المختار فى بابى الجنائز والحج عن الغير.
(٣) هو الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله ابن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلى المتوفى سنة ٦٢٠ هجرية صاحب كتاب المغنى على مختصر الإمام أبو القاسم الحزقى وهو من أجل الكتب الفقهية والعمدة فى مذهب الحنابلة - قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام ما رأيت فى كتب الإسلام فى العلم مثل المحلى والمجلى لابن حزم وكتاب المغنى لابن قدامة فى جودتهما وتحقيق ما فيهما - ونقل عنه أنه قال لم تطب نفسى بالفتيا حتى صارت عندى نسخة من المغنى - وناهيك بالعز بن عبد السلام الذى اعترف له العلماء بالاجتهاد المطلق وكانوا يلقبونه بسلطان العلماء وقد أمر بطبع كتاب المغنى بمطبعة المنار بمصر ملك الحجاز عبد العزيز آل سعود كما ذكره العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار فى مفتتح الجزء الأول من المغنى.
-----.
٨- الدعاء للميت والتصدق عنه وقد دعا النبى صلى الله عليه وسلم لكل ميت صلى عليه (١) وسأله رجل فقال يارسول الله إن أمى ماتت أفينفعها إن تصدقت عنها قال نعم (٢) -----.
(١) فى الدعاء أمران أحدهما ابتهال الداعى إلى الله تعالى وتوجهه إليه والثانى طلب حصول أمر مرغوب فيه للمدعو له.
والأول خاص بالداعى وله ثوابه.
والثانى خاص بالمدعو له - ففى نحو اللهم اغفر له وارحمه يطلب الداعى من الله تعالى الغفران والرحمة له ويرجو حصوله له ونفعه به- وقد قال عليه السلام فيما رواه أبو داود.
إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء والأمر هنا للوجوب - وكما شرع الدعاء للموتى فى صلاة الجنازة شرع الدعاء لهم عند زياره القبور وكان عليه السلام يعلم أصحابه ما يدعون به لهم إذا خرجوا لزيارتها ويطلب منهم الاستغفار لهم.
وفى زاد المعاد.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور أصحابه يزورهما للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم ويأمر من معه بالسلام عليهم والدعاء لهم وكان يتعاهد أصحابه بزيارة قبورهم والسلام عليهم والدعاء لهم كما يتعاهد الحى صاحبه فى دار الدنيا - وفى شرح المنهج أن الدعاء متفق عليه أنه ينفع الميت والحى القريب والبعيد بوصيته وغيرها وفيه أحاديث كثيرة بل كان أفضل الدعاء أن يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب - وحكى الإمام محيى الدين أبو زكريا النووى الشافعى المتوفى سنة ٦٧٦ فى شرحه على صحيح الإمام مسلم الإجماع على وصول الدعاء إلى الميت.
(٢) عن عائشة رضى الله عنها أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم أن أمى أفلتت (ماتت فجأة) وأراها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم (متفق عليه) وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلا قال يارسول الله إن أمى توفيت أينفعها إن تصدقت عنها قال نعم قال فإن لى مخرفا (بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء - بستانا) فإنى أشهدك أنى قد تصدقت به عنها (رواه البخارى والترمذى وأبو داود والنسائى) وفى بدائع الصنائع للإمام الكاسانى الحنفى المتوفى سنة ٥٨٧ أن سعد ابن أبى وقاص سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله إن أمى تحب الصدقة أفأتصدق عنها فقال النبى صلى الله عليه وسلم تصدق.
قصد الابن أن ينفع أمه بوصول ثواب هذه الصدقة إليها - وفى هذه الأحاديث دليل على أن صدقة الولد تنفع الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما ويصل ثوابها إليهما.
وحكى النووى فى شرح مسلم الإحماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها إليه من غير تقييد يكونها من الولد (نيل الأوطار) .
-----.
٩- الحج عن العاجز وعن الميت وجاءت امرأة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله إن فريضة الله فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته.
قالت نعم. قال فدين الله أحق أن يقضى (١) .
-----.
(١) رواه أحمد والنسائى بمعناه.
وعن ابن عباس قال جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع فقالت يارسول الله إن فريضة الله على عبادة فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوى على الراحلة.
فهل يقضى عنه أن أحج عنه. قال نعم (رواه الجماعة) وفى الحديثين دليل على جواز الحج من الولد نيابة عن والده إذا كان ميئوسا من قدرته على الحج المفروض وقوله عليه السلام نعم معناه حجى عنه أى قضاء عنه فيقيد أن الحج يقع عن المحجوج عنه وهو ظاهر الرواية عند الحنفية ومختار السرخسى وجمع من المحققين.
وقال فى نيل الأوطار ولا يختص ذلك بالخثعمية لأن الأصل عدم الخصوص.
ولا بالابن خلافا لمن ادعى أنه خاص به. قال فى الفتح ولا يخفى أن دعوى لاختصاص به جمود.
وعن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفاحج عنها قال نعم.
حجى عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته.
اقضوا الله.
فالله أحق بالوفاء. (رواه البخارى والنسائى بمعناه) وفى رواية لأحمد والبخارى بمثل ذلك وفيها قال.
جاء رجل إلى النبى فقال إن أختى نزرت أن تحج - (وفى قوله نعم) دليل على إجزاء الحج عن الميت من الولد من غيره فيما وجب عليه بنذر أو غيره بدليل قوله اقضوا الله فالله أحق بالوفاء (وفى قوله أكنت قاضيته) دليل على أن مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه منه ويلحق بالحج كل حق ثبت فى ذمته لله تعالى من نذر أو كفارة أو زكاة أو غير ذلك وفى الرواية الثانية دليل على صحة الحج عن الميت من غير الوارث لعدم استفصاله صلى الله عليه وسلم للأخ هل هو وراث أولا وترك الاستفصال منه صلى الله عليه وسلم فى مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم فى المقال كما تقرر فى الأصول - وعن ابن عباس قال أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل فقال إن أبى مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه قال أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه قال نعم.
قال فاحجج عن أبيك رواه الدار قطنى وفيه دليل على أنه يجوز للابن أن يحج عن أبيه حجة الإسلام بعد موته وإن لم يقع منه وصية ولا نذر.
ويدل على جواز الحج عن الميت من غير الولد حديث شبرمة وهو ماروى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة.
فقال من شبرمة. قال أخ لى أو قريب لى.
قال حججت عن نفسك. قال لا. قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة (رواه أبو داود وابن ماجة) قال النووى فى شرح مسلم ويؤخذ من حديث الخثعمية جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب وهو الزمانة والهرم ونحوهما.
وهو مذهب الجمهور سواء أكان العجز عن فرض أم نذر وسواء أوصى به أم لا ويجزىء عنه.
وقال مالك والليث.
لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام وحكى عن النخعى وبعض السلف أنه لا يصح الحج عن ميت ولا غيره وهى رواية عن مالك وإن أوصى به.
ولعل وجه هذا القول ماذكره القرطبى من أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف للقرآن أى لقوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} النجم ٣٩، فيرجح ظاهر القرآن لتواتره.
قال الشوكانى ولكنه يقال هو عموم مخصوص بأحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص انتهى - والحق ما ذهب إليه الجهور لهذه الأحاديث الصحيحة وهو صريح فى انتفاع الميت به وفراغ ذمته مما شغلها ووصول ثوابه إليه.
والله أعلم. -----.
١٠- الصوم عن الميت وسأله رجل عن أمة التى ماتت وعليها صوم شهر.
أفأصوم عنها. قال نعم (١) .
-----.
(١) عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله إن أمى ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها.
فقال لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم.
قال فدين الله أحق أن يقضى (رواه مسلم) وعنه قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله إن أمى ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها فقال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها قالت نعم.
قال فصومى عن أمك (أخرجه الشيخان) .
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه (متفق عليه) وروى نحوه عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو تقرير لقاعدة عامة فيمن مات وعليه صوم واجب بأى سبب من أسباب الوجوب وكذلك حديث ابن عباس الأول ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيه (فدين الله أحق أن يقضى) .
وأما حديث ابن عباس الثانى فهو تنصيص على بعض أفراد العام وهو صوم النذر فلايصلح مخصصا ولا مقيدا لحديث عائشة فاستفيد من هذه الأحاديث أن الولى يصوم عمن مات وعليه صوم واجب اى صوم كان نذرا أو غيره، وجوبا كما قال ابن حزم أو استحبابا كما ذهب إليه الجمهور ومنهم الشافعى فى القديم وصححة النووى.
وقال إنه المختار من قول الشافعى وقال به من السلف طاووس والحسن والزهرى وقتادة.
وأبو ثور وإليه ذهب أصحاب الحديث وجماعة من محدثى الشافعية والأوزاعى.
وقال البيهقى هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافا بين أصحاب الحديث فى صحتها وذهب مالك أبو حنيفة والشافعى فى قوله الجديد إلى أن الولى لا يصوم عن الميت فى النذر ولا فى غيره بل يطعم عنه لكل يوم مسكينا لما أخرجه النسائى عن ابن عباس موقوفا أنه قال لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد عن أحد ولما أخرجه عبد الرازق عن عائشة موقوفا أنها قالت لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم ولأن الصوم عبادة بدنية لا ينوب فيها أحد عن أحد كالصلاة.
وفتيا ابن عباس وعائشة بهذا - وهو خلاف مارويناه مرفوعا من صوم الولى - بمنزلة رواية الناسخ ورده الشوكانى بأنى الحق اعتبار ما رواه الصحابى دون مارآه.
وماروى مرفوعا فى الباب يرد ذلك كله. وذهب أحمد والليث وأبو عبيد إلى أن الولى لا يصوم عن الميت إلا فى النذر تمسكا بأن حديث عائشة مطلق وحديث ابن عباس الثانى مقيد فيحمل الملطق على المقيد ويكون المراد من قوله فى الحديث وعليه صيام أى صيام نذر وقد علمت الجواب عن ذلك مما سلف.
أما فى غير النذر فالواجب أن يطعم عنه كل يوم مسكينا لما روى عن ابن عمر موقوفا من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا وعن عائشة قالت يطعم عنه فى قضاء رمضان ولا يصام عنه وسئل فلطعم عنه مكان كل يوم مسكينا وعن عائشة قالت يطعم عنه فى قضاء رمضان ولا يصام عنه وسئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صيام رمضان فقال أما رمضان فليطعم عنه وأما النذر فيصام عنه.
وفرق فى المغنى بين النذر وغيره وقال تفريعا عليه إن الصوم (أى فى النذر) ليس بواجب على الولى لأن النبى شبهه بالدين ولا يجب على الولى قضاء دين الميت وإنما يتعلق بتركته إن كان له تركة وإلا فلا شىء على وارثه.
ولكن يستحب أن يقضى عنه لتفريغ ذمته وفك رهانه.
فكذلك ههنا ولا يختص ذلك بالولى بل كل من صام عنه قضى ذلك عنه وأجزاء لأنه تبرع.
فأشبه قضاء الدين عنه انتهى - وقد اختلف الفقهاء فى المراد بالولى فاختار النووى فى شرح مسلم أنه القريب وارثا أو غير وارث وقيل هو الوارث خاصة وقيل العصبة خاصة.
وذهب الحنفية إلى أنه هو المتصرف فى المال فيشمل الوصى ولو أجنبيا.
كما ذكره ابن عابدين فى الصوم كما اختلفوا فى أنه هل يختص الصوم بالولى أولا فقيل يختص به ورجحه الشوكانى لأن الأصل عدم النيابة فى العبادة البدنية فى الحياة فكذلك بعد الموت إلا ما ورد فيه النص فيقتصر عليه ويبقى الباقى على الأصل.
وصححه النووى وقال إنه لو صام عن الميت أجنبى فإن كان بإذن الولى صح وإلا فلا.
وزاد الإمام القسطلانى الشافعى المتوفى ٩٢٣ أنه يصح الصوم عن الميت من الأجنبى إذا أذن له الميت أو الولى بأجرة أو بدونها انتهى.
وقيل لا يختص به بل يقبل من المتبرع ولو أجنبيا وهو صريح عبارة المغنى وظاهر صنيع البخارى وبه جزم أبو الطيب الطبرى - وقال الحنفية إن الولى يطعم عن الميت من ثلث ماله وجويا إن أوصى وجواز إن لم يوص.
فإن تبرع به جاز معلقا على مشيئة الله تعالى وكان ثوابه للميت والصلاة كالصوم فى استحسان المشايخ ولا يجوز أن يصوم الولى أو يصلى عن الميت ليكون قضاء عما وجب عليه لما قاله ابن عباس لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد ولكن للولى وغيره أن يجعل ثواب صومه أو صلاته للميت تبرعا بمثابة الصدقة لما صرح به الهداية من أن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو حجا أو غيره.
وروى الدار قطنى أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال كان لى أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لى ببرهما بعد موتهما فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن من البر بعد الموت أن تصلى لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صيامك.
وفى البدائع أن قوله عليه السلام لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد عن أحد إنما هو فى حق الخروج من العهدة لا فى حق الثواب فإن من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة.
وعليه عمل المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من زيارة القبور وقراءة القرآن عليها والتكفين والصدقات والصوم والصلاة وجعل ثوابها للأموات - ولا مانع من ذلك عقلا لأن إعطاء الثواب من الله إفضال منه لا استحقاق عليه فله إن يتفضل على من عمل لأجله بجعل الثواب له كما له أن يتفضل بإعطاء الثواب من غير عمل رأسا.
وفى البحر الرائق للعلامة ابن نجيم الحنفى المتوفى سنة ٩٦٩ على متن الكنز للإمام النسفى والظاهر أنه لا فرق بين أن ينوى عند الفعل الغير أو يفعله لنفسه ثم بعد ذلك يجعل ثوابه لغيره لإطلاق كلامهم.
ومن هذا يظهر انتفاع الميت بحج غيره عنه ووصول ثوابه إليه وبإطعام غيره عنه لأن فى الإطعام برا بالمساكين وسدا لحاجتهم ولذلك ثواب عظيم وما عمل ذلك إلا لأجل الميت فيصل إليه ثوابه لتسببه فيه فى الحقيقة.
-----.
١١- قراءة يس على الموتى وعلى المقابر وهذه أحاديث صحاح تدل على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الدعاء للميت والاستغفار والحج والصوم عبادات بدنية (١) وقد أوصل الله ثوابها إلى الميت فكذلك ماسواها مع ما تقدم من حديث ثواب القراءة.
وقد ورد حديث فى ثواب من قرأ يس وتخفيف الله تعالى عن أهل المقابر بقراءتها (٢) -----.
(١) ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الحج عبادة تؤدى بالمال والبدن معا وقد عده المصنف فى العبادات البدنية فيحتمل أن يكون ذلك جريا على ما ذهب إليه بعضهم ومنهم قاضيخان من أئمة الحنفية من أنه عبادة بدنية كالصلاة والصوم.
والمال شرط الوجوب فقط. ويحتمل وهو الأقرب أن يكون المراد بالبدنية هنا ما يشمل المحضة كالدعاء والاستغفار والصوم وكذا قراءة القرآن والذكر وغير المحضة كالحج.
فإنه مالى من حيث أشتراط الاستطاعة ووجوب بارتكاب محظوراته وبدنى من حيث الوقوف والطواف والسعى.
والقسم الثالث عبادة مالية محضة كالزكاة والكفارة والصدقة.
وقد نازع ابن حزم فى الصوم فذهب إلى أنه عبادة مركبة كالحج من حيث الإمساك والإطعام فى جبر مانقص منه.
(٢) يشير ابن قدامة بهذا إلى قوله قبل هذا الفصل (وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم) أنه قال من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكن له بعدد من فيها حسنات) وروى عنه عليه السلام (من زار قبر والديه فقرأ عنده أو عندهما يس غفر له) وإلى ماذكره فى باب ما يفعل عند المحتضر من قول أحمد (ويقرءون عند الميت إذا احتضر ليخفف عنه بالقراءة يقرأ يس وأمر بقراءة فاتحة الكتاب) وفى الشرح الكبير فى هذا الباب (ويقرأ عنده سورة يس لما روى معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرءوا يس على موتاكم) رواه أبو داود.
وروى أحمد (يس قلب القرآن.
ولا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على مرضاكم) وحديث معقل كما فى نيل الأوطار رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائى وابن حبان وصححه وأعله القطان وضعف الدار قطنى وحمله ابن حبان على من حضرته الوفاة مجازا باعتبار ما يؤول إليه لا على الميت حقيقة ورده المحب ابن حبان على من حضرته الوفاة مجازا باعتبار ما يؤول إليه لا على الميت حقيقة ورده الطبرى وقال الشوكانى إن للفظ نص فى الميت وتناوله للحى المحتضر مجاز فلايصار إليه لا بقرينة أانتهى.
وهذا الحديث مع ضعف إسناده يفيد بإطلاقه ومع إرادة المعنى الحقيقى للفظ الموتى استحباب قراءة يس على مطلقا سواء أكانت القراءة عن المقبرة أو بعيدا عنها.
والحديثان الآخران يفيدان جواز قراءتها عند المقبرة وفى شرح الجامع الصغير للعزيزى وحاشيته أن إسناده ضعيف وأن يس تقرا على المحتضر وعلى الميت جمعا بين القولين وأن تخصيصا بالقراءة كما قال ابن القيم لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة للمؤمنين.
ولتحمل للميت بركتها ليخفف عنه ما يجده.
وقد ثبت فى الصحيح اختصاص بعض آيات القرآن وسوره بفضائل كما فى الفاتحة وآية الكرسى وآخر البقرة والإخلاص وغيرها (وبعد) فإذا جازت قراءة يس عند المريض لتخفيف وطأة المرضى عنه وعند الحضر لتخفيف سكره الموت عنه فلم لا يجوز قراءتها على من مات للتخفيف عنه أيضا.
وأى فرق بين هذه الأحوال بعد أن ثبت بالسنة المستفيضة أن الروح حية باقية تشعر بالذة والألم ولم يقل أحدبان الحديث موضوع وغاية ماقيل فيه أنه ضعيف الإسناد وهو يعمل به فى مثل هذا المقام.
ونوط التخفيف بقراءة يس إنما هو من سعة الرحمة وعظيم الفضل الإلهى كما نيط الشفاء بقراءة الفاتحة فى حديث الرقية المشهور، وقد تكون الحاجة من دار العمل أشد وأعظم ولا مانع من استعمال لفظ موتى فى المحتضر والميت حقيقة جمعا بين الحقيقة والمجاز وهو جائز عند الشافعية أو فى معنى يعمهما وهو من انقطع الرجاء فى حياته أو نحو ذلك فيكون من باب عموم المجاز وهو جائز فى الاستعمال باتفاق الأصوليين.
ثم أعلم أن القراءة مطلقا إنما تجوز عند الحنفية وعند ابن تيمية وابن القيم إذا كانت تبرعا بدون أجر والله أعلم.
-----.
١٢- مذهب الشافعية فى العبادات البدنية المحضة وقال الشافعى إن الذى يصل ثوابه إلى الميت الدعاء والاستغفار والصدقة والواجب الذى يقبل النيابة كالحج.
وما عدا ذلك (١) لا يفعل عنه ولا يصل ثوابه إليه - ملخصا - ونقل العلامة ابن عابدين فى شفاء العليل وفى حاشيته على الدر أن مالكا والشافعى ذهبا إلى أن العبادات البدنية المحضة كالصلاة وتلاوة القرآن لا تصل إلى الميت.
بخلاف غيرها كالصدقة والحجز وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الشافعى إن مشهور المذهب أى فى تلاوة القرآن محمول على ما إذا قرىء لا بحضرة الميت ولم ينو الثواب له أو نواه ولم يدع (٢) انتهى - وفى شرح المنهاج من كتب الشافعية لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور،والمحتار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته وينبغى الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى فيجوز بالأولى بما هو له.
ويبقى الأمر موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يختص بالقراءة بل يجزى فى سائر الأعمال (٣) .
وفى المجموع للنووى سئل القاضى أبو الطيب عن ختم القرآن فى المقابر فقال الثواب للقارىء ويكون الميت كالحاضرين ترجى له الرحمة والبركة ويستحب قراءة القرآن فى المقابر لهذا المعنى، وأيضا فالدعاء عقب القراءة أقرب إلى الإجابة والدعاء ينفع الميت (٤) .
-----.
(١) أى وهو العبادات البدنية المحضة ومنه قراءة القرآن لا يصل ثوابها إلى الميت ولو فعلها تبرعا لقوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} النجم ٣٩، وقوله عليه السلام (إذا مات ابن آدم انقطع عمته إلا من ثلاث علم علمه أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم عن أبى هريرة وذهب المعتزلة إلى أنه لا يصل إلى الميت ثواب شىء من العبادات مطلقا بدنية أو غير بدنية استدلالا بهذه الآية لأنها ليست من سعيه.
والجواب عنها أولا كما قال ابن حزم فى كتاب الحج أن هذه الآية مكية اتفاقا وقد روى النبى صلى الله عليه وسلم أخبار متواترة من طرق صحاح عن خمسة من الصحابة فى الحج عن العاجز فصح أن الله تعالى بعد أن لم يجعل للإنسان إلا ما سعى تفضل على عباده فجعل لهم ما سعى فيه غيرهم بهذه النصوص الثابتة.
وقال فى كتاب الصوم إن الله الذى أنزل هذه الآية هو الذى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {لتبين للناس ما نزل إليهم} النحل ٤٤، وقال {من يطع الرسول فقد أطاع الله} النساء ٨٠، فصح أنه ليس للإنسان إلا ما سعى وما حكم الله أو رسوله بأنه من سعى غيره عنه والصوم عنه من جملة ذلك انتهى - وحاصله أن الآية منسوخة أو مخصصة بما دلت عليه هذه الأحاديث من انتفاع الميت بحج غيره وصومه عنه وهما ليسا من سعيه وعمله ولا فرق بين الحج والصوم فى ذلك.
ثانيا كما قال الكمال ابن الهمام الحنفى المتوفى سنة ٦٨١ فى فتح القدير أن الآية يجب تقييدها بما لم يهبه العامل للميت وذلك أنه قد ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته واشتهرت رواية هذا الحديث عن عدة من الصحابة فيجوز تقييد هذه الآية به وثبت ثبوتا بلغ مبلغ التواتر أن من جعل شيئا من الصالحات لغيره نفعه الله به مثل حديث صلاة الولد وصيامه لوالديه مع صلاته وصيامه لنفسه.
وحديث قراءة سورة الإخلاص وهبة أجرها للأموات.
وقراءة يس على الموتى. وحديث إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم ووصول إليهم وأنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدى إليه - وثبت الأمر بالدعاء للوالدين فى قوله تعالى {وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا} الإسراء ٢٤، واستغفار الملائكة للمؤمنين فى قوله تعالى {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الأرض} الشورى ٥، وذلك قطعى فى حصول الانتفاع بعمل الغير.
فقطعنا بانتفاء إرادة ظاهر الآية وبتقييدها بما لم يهبه العامل - ملخصا -.
ومعنى الآية أنه ليس ينفع الإنسان فى الآخرة إلا ما عمله فى الدنيا مالم يعلم له غيره عملا ويهبه له فإن ينفعه كذلك فمن صلى أو صام أو تصدق أو أتى بأية قربة فجعل ثواب ذلك لغيره جاز لا فرق بين أن تكون القربة عبادة مالية أو بدنية أو مركبة منهما.
ثالثا كما فى الألوسى وغيره أن انتفاع الميت يسمى الميت غيره له مبنى على إيمانه وصلاحه وهما من عمله وسعيه خاصة فجعل عمل الغير نفس سمى الميت وعمله بهذا الاعتبار.
وقد دل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن العاص بن وائل نذر فى الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشام بن العاص نحرحصته خمسين وأن عمرا سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك) فقد أخبره الرسول بأن موت أبيه على الكفر مانع من وصول الثواب إليه وأنه لو أقر بالتوحيد لأجزأ ذلك عنه ولحقه ثوابه وحاصل المعنى أنه ليس للإنسان إلا ما سعى فيه وهو ما باشره من عمل نفسه وما تسبب فيه بإيمانه من عمل غيره لأجله وذلك يشمل كل قربة يعملها الغير لأجل الميت ويهب ثوابها له كما هو ظاهر والجواب عن الحديث كما قال ابن حزم والزيلمى أنه لا يفيد إلا انقطاع عمل الميت فقط وليس فيه دلالة على انقطاع عل غيره عنه أصلا ولا المنع من ذلك.
قال ابن حزم وليس بصحيح ما قاله الفقهاء من أن عمل الأبدان لا يعمله أحد عن أحد.
بل كل عمل أمر النبى صلى الله عليه وسلم به أن يعمله المرء غن غيره وجب أن يعمل على الرغم من ذلك وقياسهم العبادات البدنية على الصلاة قياس باطل لاتفاقهم على جواز أن يصلى المرء الذى يحج عن غيره ركعتين عند المقام عن المحجوج عنه فإذا أجازوا ذلك فليقس عليه سائر أعمال الأبدان.
وكذلك قولهم لا يصام عنه كما لا يصلى عنه قياس باطل ببل يصل عنه النذر والفرض إن نسبه أو نام عنه ولم يصله حتى مات لدخول ذلك تحت وقوله صلى الله عليه وسلم فدين الله أحق أن يقضى.
ولا فرق بين الصيام والحج فلمال مدخل فى كل منهما.
ففى الحج بجبرة بالهدى والإطعام وفى الصوم بجبره بالعتق والإطعام.
(٢) انظر شفاء العليل ويؤخذ ويؤخذ من أنه إذا قرىء القرآن يحضره البين ونوى القارىء الثواب له يصل إليه ثواب القراءة.
ويؤيد ذلك حديث قراءة يس عند المحتضر.
وكذلك إذا قرىء فى غيبة الميت أى عند القبر أو بعيدا عن ونوى الثواب له ودعا القارىء بأن يصل ثواب القراءة إلى الميت وهذه الصورة هى ما فى عبارة شرح المنهاج.
(٣) نيل الأوطار جزء ٤ فجميع أعمال الطاعات إذا اقترنت بسؤال الله إيصال ثوابها إلى الميت يصل إليه بمشيئة الله شأن كل دعاء ترجى استجابته.
(٤) فبين أن حكمة استحباب قراءة القرآن فى المقابر أمران رجاء حصول الرحمة والبركة للميت ببركة القرآن ورجاء قبول دعاء القارىء له لأن الدعاء بعد قراءة القرآن أقرب إلى الإجابة وفى هذا البيان جنوح إلى القول المشهور.
وقد نقل النووى فى الأذكار عن جماعة من أصحاب الشافعى أنه يصل ثواب القراءة إلى الميت كما ذهب إليه ابن حنبل وجماعة من العلماء.
-----.
١٣- مذهب المالكية فى العبادات البدنية وفى الشرح الكبير وحاشيته للعلامة الدسوقى المالكى فى باب الحج أن الصدقة والدعاء والهدى مما تقبل فيه النيابة عن الغير يصل ثوابه إلى الميت بلا خلاف، ويكون وقوعه من النائب بمنزلة وقوعه من المنوب عنه فى حصول الثواب، بخلاف الصلاة والصوم فإنه لا تقبل فيها النيابة، وأما الحج عن الغير فيجوز مع الكراهة.
١٤- قراءة القرآن للموتى عند المالكية واختلف فى قراءة القرآن للميت، فأصل المذهب كراهتها، وذهب المتأخرون إلى جوازها، وهو الذى جرى عليه العمل، فيصل ثوابها إلى الميت، ونقل ابن فرحون أنه الراجح، كما ذكره ابن أبى زيد فى الرسالة وقال الإمام ابن رشد محل الخلاف مالم تخرج القراءة مخرج الدعاء بأن يقول قبل قراءته اللهم اجعل ثواب ما أقرؤه لفلان، فإذا خرجت مخرج الدعاء كان الثواب لفلان قولا واحدا وجاز من غير خلاف انتهى.
وعلى هذا ينبغى أن يقول القارىء قبل قراءته ذلك ليصل ثواب القراءة إلى الميت باتفاق أهل المذهب.
١٥- مذهب الحنفية وصول ثواب الطاعات للميت وذهب الحنفية إلى أن كل من أتى بعبادة سواء كانت صلاة أو صوما أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكرا أو طوافا أو حجا أو عمرة أو غير ذلك من أنواع البر له جعل ثوابها لغيره من الأحياء أو الأموات (١) ، ويصل ثوابها إليه (٢) ، كما فى الهداية والفتح والبحر وغيرها وقد أطال فى بيان ذلك صاحب الفتح وفيه روى عن على عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال من مر على المقابر وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات أعطى من الأجر بعدد الأموات وعن النبى عليه السلام أنه قال اقرءوا على موتاكم يس رواه أبو داود وعن الدار قطنى أن رجلا سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال كان لى أبوان أبرهما حال حياتهما فيكف لى ببرهما بعد موتهما فقال إن من البر بعد الموت أن تصلى لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صيامك.
وعن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل فقال السائل يارسول الله إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعولهم هل يصل ذلك إليهم قال نعم إنه ليصل إليهم وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدى إليه.
وأما قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} النجم ٣٩، فهو مقيد بما إذا لهم يهد ثواب عمله للغير كما حققه فى الفتح (٣) .
وقال الشوكانى فى نيل الأوطار إن عموم الآية مخصوص بالصدقة والصلاة والحج والصيام وقراءة القرآن والدعاء من غير الولد (٤) .
----- (١) أى إهداءه له بأن يسأل الله تعالى أن يجعل ثواب مافعله من الطاعات لذلك الغير ولا بعد فى ذلك لأن الذى يملك ثواب المؤمن وجزاءه هو الله وحده والذى رتب الجزاء على الفعل هو الله وحده والذى قدره ويضاعفه إن شاء هو الله وحده.
فله أن يمنح الثواب للفاعل وله أن يمنحه لمن جعله الفاعل له فضلا منه ورحمة ولا معقب لحكمه - والمجعول له قد أهل نفسه لهذه المنحة بإيمانه وتصديقه وإقراره بالعبودية لله فكان فى المعنى ساعيا فى هذا الفعل الذى جعل ثوابه له.
وأماما روى من أنه لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد عن أحد فمحمله عدم خروج المنوب عنه من عهدة التكليف بفعل النائب لعدم قبول هاتين العبادتين النيابة وهذا شىء غير جعل ثواب الصوم والصلاة للغير بحيث ينتفع به الميت كانتفاعه بالدعاء والصدقة ومثلهما قراءة القرآن تبرعا وإهداء ثوابها للميت كما تقدم عن ابن القيم.
(٢) أى إذا فعل ذلك تبرعا بدون أجركما سيأتى (٣) تقدم بيانه فى الجواب عن استدلال الشافعية والمعتزلة بهذه الآية.
(٤) قال الشوكانى الحق أن عموم الآية مخصوص بالصدقة من الولد لأحاديث الصدقة وبالحج منه لحديث الخثعمية ومن غيره لحديث المحرم عن شبرمة وبالصلاة من الولد لحديث صلاة الولد وصومه لوالديه مع صلاته وصومه لنفسه وبالصيام منه لهذا ولحديث صوم المرأة عن أمها ومن غيره لحديث صيام الولى وبقراءة يس من الولد وغيره وبالدعاء من الولد لحديث أو ولد صالح يدعو له ومن غيره لقوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم} الحشر ١٠، ولحديث استغفروا لأخيكم وحدث أفضل الدعاء للأخ.
وكما تخصص الأحاديث المذكورة هذه الآية تخصص حديث أبى هريرة إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.
وقيل يقاس على هذه المواضع غيرها فيلحق الميت كل شىء فعله غيره - ملخصا -.
وقيل يقتصر على ما ورد.
وإنما قلنا (من غير الولد) لأن ما يفعله الولد قد يقال إنه من سعى الوالد لحديث (ولد الإنسان من سعيه) فكل ما يفعله الولد داخل فى الآية فلا حاجة إلى التخصيص وظاهر إن هذه المخصصات منها ما ورد فى عبادة بدنية ومنها ما ورد فى عبادة مالية.
ومنها ماورد فى عبادة مركبة منهما فلا يتم الاستدلال بالآية والحديث للشافعية والمعتزلة والله أعلم -----.
١٦- رأى الإمام القرافى من أئمة المالكية وفى فروق العلامة القرافى المالكى فى الفرق الثانى والسبعين بعد المائة أن أنواع القربات ثلاثة قسم حجر الله تعالى على عباده فى ثوابه ولم يجعل لهم نقله إلى غيرهم كالإيمان والتوحيد، وقسم اتفق الناس على أنه تعالى أذن فى نقله للميت وهو القربات المالية كالصدقة والعتق.
وقسم اختلف فيه هل فيه حجر أم لا وهو الصيام والحج وقراءة القرآن (١) فلا يحصل شىء من ذلك للميت عند مالك والشافعى (٢) .
وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل يصل ثواب القراءة للميت.
فمالك والشافعى يحتجان بالقياس على الصلاة ونحوها (٣) مما هو فعل بدنى والأصل فى الأفعال البدنية أن لا ينوب فيها أحد عن أحد.
ولظاهر قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ولحديث إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به وصدقة جارية وولد صالح يدعو له.
واحتج أبو حنيفة وأحمد بالقياس على الدعاء.
فإن، الإجماع على وصول ثوابه للميت فكذلك القراءة والكل عمل بدنى - وبظاهر قوله عليه السلام للسائل (صل لهما مع صلاتك وصم لهما مع صومك) أى لوالديك.
وبعد أن ناقش الدليلين قال.
إن الذى يتجه ولا يقع فيه خلاف أنه يحصل للموتى بركة القراءة لا ثوابها (٤) كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده.
-----.
(١) لم يرد الحصر كما هو ظاهر (٢) أى فى المشهور فى المذهبين وإلا فالمتأخر ون من علماء المذهبين ذهبوا إلى حصول النفع للميت فى هذه العبادات ومنها القراءة ونفعها إما بوصول ثوابها أو حصول بركتها (٣) علمت أن الصلاة عن الميت مشروعة فى منسك الحج عنه وفى صلاة الولد عن والديه مع صلاته كما فى حديث الدار قطنى ومتى ورد النص كان هو المعول عليه (٤) يوافق رأى القاضى أبى الطيب من الشافعية.
-----.
١٧- احتياط معقول ثم قال وهذه المسألة وإن كان مختلفا فيها فينبغى للإنسان أن لا يهملها فلعل الحق هو الوصول إلى الموتى، فإن هذه أمور خفية عنا، وليس الخلاف فى حكم شرعى إنما هو فى أمر واقع هل هو كذلك أم لا، وكذلك التهليل (١) الذى اعتاد الناس عمله ومن الله الجود والإحسان.
هذا هو اللائق بالعبد (٢) انتهى. -----.
(١) قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير راجع فى فضلها الصحيحين.
(٢) فى هذا رد على من يضيق واسعا ويصعب سهلا فإن فضل الله عظيم ورحمته وسعت كل شىء ولا حرج على الفضل الإلهى أن يجعل وثواب هذه الطاعات لمن جعلها له فاعلها فإن أبوا إلا التحجير والتضييق مع دلالة ما قدمنا من الأسانيد فلهم دينهم ولى دين -----.
١٨- الخلاصة والخلاصة فى ذلك أن مذهب الحنفية والحنابلة وصول ثواب جميع العبادات والقربات إلى الميت وانتفاعه بها إذا جعل ثوابها.
ومذهب الشافعية فى المشهور والمالكية فى الأصل وصول ثواب القربات ما عدا العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم وتلاوة القرآن والذكر، وقد علمت رأى المتأخرين من الشافعية والمالكية، وإن المختار عندهم وصول الثواب إلى الميت (١) .
-----.
(١) أى بالشروط السابق ذكرها.
-----.
حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن.
غير أنه مما يلزم التنبيه له إن وصول ثواب تلاوة القرآن إلى الميت مقيد بما إذا كانت القراءة تطوعا بدون أجر كما ذكره ابن القيم (١) وأئمة الحنفية (٢) .
سواء كانت القراءة من ولد الميت أم من غيره (٣) وأما الاستئجار على تلاوة القرآن فغير جائز عند الحنفية وأجازه المالكية (٤) وذكر ابن فرحون أن جواز أخذ الأجرة على قراءة القرآن مبنى على وصول ثواب القراءة لمن قرىء لأجله كالميت وهو الراجح عندهم كما سلف.
-----.
(١) وهو رأى ابن تيمية (٢) ذهب الحنفية إلى عدم جواز الاستئجار على الطاعات كتعليم القرآن وتلاوته والفقه والأذان والإقامة والوعظ والحج والعمرة والغزو والصلاة والصيام وغير ذلك مما يعد فى نفسه طاعة بمعنى أنه لا تجب الأجرة ولا يجوز أخذها ولا إعطاؤها والإجارة باطلة وبه قال الضحاك وعطاء والزهرى والحسن البصرى وابن سيرين وطاووس والشعبى والنخعى واستثنى المتأخرون منهم تعليم القرآن وأخذ الأجرة عليه تحرزا من ضياعه وترغيبا فى حفظه وعليه الفتوى وبعضهم استثنى أيضا الأذان والإقامة وتعليم الفقه والوعظ للضرورة وبقى أخذ الأجرة عليها كما لا يجوز لأخذ الأجرة على الصلاة والصيام - نعم يجوز للإنسان أن يتبرع بثواب هذه العبادات لغيره حيا أو ميتا بدون استنابة ولا تأخير فيرجى أن يصل ثوابها إليه فإذا تبرع إنسان بقراءة القرآن للميت وجعل ثوابه له جاز سواء كانت القراءة عند القبر أو بعيدا عنه ففى وصايا الولوالجية لو زار قبر صديق أو قريب له وقرأ عنده شيئا من القرآن فهو حسن انتهى.
وفى خزانة المفتين ولو زار قبر صديق له فقرأ عنده لا باس به انتهى - وقد نقل عن الإمام القول بكراهة القراءة عند القبر وهو رواية والكراهة فيه يظهر أنها تنزيهية وينبغى أن يعلم أن الكلام هنا فى مقامين أحدهما قراءة القرآن تبرعا وإهداء ثوابها إلى الميت والثانى الاستئجار على القراءة للميت أو لغيره والأول جائز والثانى ممنوع فقد نصوا على أن التبرع بالقراءة وإهداء ثوابها للميت بمثابة الدعاء إذ القارىء يسأل الله أن يجعل الثواب للميت ولا ضير فى ذلك ولا نيابة فيه.
ونصوا على أن القارىء للدنيا وهو الذى يقرأ لأجل لاثواب له والآخذ والمعطى آثمان (شفاء العليل) وعند أهل المدينة يجوز أخذ الأجرة على التلاوة وبه أخذ الشافعى ونصير وعصام وأبو النصر الفقيه وأبو الليث (مغنى) ولعله لضرورة إحياء القرآن والحث على تلاوته ولما ذكره ابن فرحون ولحصول البركة بقراءته ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة وما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده وقال النووى إن التقييد بالمسجد خرج مخرج الغالب لاسيما فى ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به.
(٣) وسواء أكانت القراءة عند القبر أو بعيدة منه.
(٤) أى فى قول كما تفهمه العبارة الآتية.
-----.
٢٠ - فتوى للأستاذ الوالد فى قراءة القرآن للميت ووصول ثوابها إليه وبعد تحرير هذا وقفت على فتوى للأستاذ الوالد رحمه الله وهو مالكى المذهب حررها فى سنة ١٣٤٩ جوابا عن أسئلة وردت إليه جاء فيها ما نصه وأما قراءة القرآن للميت سواء أكانت على القبر أم بعيدا عنه فقد اختلف العلماء فى وصول الثواب إليه، والجمهور على الوصول (١) وهو الحق خصوصا إذا وهب القارىء بعد القراءة ثواب ما قرأه للميت، وللقارئ أيضا ثواب لا ينقص من أجر الميت شيئا، والتفضيل (٢) بين القراءة والصدقة بالنقود يختلف باختلاف مقدار الصدقة ونفعها للفقير وحال المتصدق واختلاف القراءة.
وما يدفع للقراء من الأجر (بناء على رأى للمالكية فى جواز أخذ الأجرة على القراءة) ومسألة الأجر والثواب قلة وكثرة موكولة إلى الله تعالى وفى يده بيسطها لأيهما كيف يشاء.
وقد ورد فى كل ما يحث على فعله.
وقد علمت أنه لا فرق فى ذلك بين القرب والبعد لأن الله تعالى هو المطلع على القارىء وإحسانه العمل وإخلاصه فيه، وعلى المتصدق وإخلاصه فى صدقته، وهو المقدر لهذا وذاك والقرب والبعد بين القارىء والمتصدق وبين الميت لا دخل له فى وصول الثواب وعدم وصوله.
وهناك هدايا كثيرة غير النقود يتصدق بها على الميت كالدعاء وجميع الارتفاقات المعاشية التى ينتفع بها الفقراء من طعام وشراب ولباس ووقف أرض أو دار أو إسكان مستحق لذلك إذا قصد إهداء ثوابه لروح الأموات كالنقود سواء.
والله أعلم انتهى. هذا ما اتسع له الوقت فى الإجابة عن هذا السؤال.
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
مفتى الديار المصرية حسنين محمد مخلوف ----- (١) وهو رأى الحنفية واحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم والمتأخرين من المالكية والشافعية.
(٢) هذا جواب عن أحد الأسئلة المتعلقة بالقراءة والصدقة.
----- خاتمة فى زيارة القبور وزيارة القبور مستحبة للعظة والاعتبار، وتذكر الموت وأهوال الآخرة وانتفاع الموتى بالدعاء لهم، ففى الحديث (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فقد أذن لمحمد فى زيارة قبر آمنة فزوروها فإنها تذكر الآخرة) رواه الترمذى وصححه وأخرجه مسلم وأبو داود والحاكم.
وفى حديث آخر أخرجه الحاكم (فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) وكان عليه السلام يزور قبور شهداء أحد كل حول مرة، ويسلم عليهم، ويزور قبور أهل بقيع الفرقد بالمدينة مرارا ويسلم عليهم ويدعو لهم، ويقول السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم وأحمد وابن ماجه.
وكانت فاطمة تزور قبر عمها حمزة رضى الله عنه وكان ابن عمر لا يمر بقبر إلا وقف عليه وسلم عليه.
وفى زاد المعاد كان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، ويأمر من معه من أصحابه أن يقول السلام عليكم أهل الديار إلخ.
وكان يتعاقد الميت بالزيارة إلى قبره والسلام عليه والدعاء له كما يتعاهد إلى صاحبه فى الدار الدنيا.
وذهب ابن حزم إلى أن زيارة القبور واجبة ولو فى العمر مرة لورود الأمر بها، والزيارة مأذون فيها للرجال باتفاق، أما النساء فقيل بكراهتها.
وذهب الأكثر إلى الجواز إذا أمنت الفتنة، وقال بعض الفقهاء إن كانت زيارتهن للاعتبار والترحم من غير بكاء وكن عجائز جاز، وإن كانت لتجديد الحزن والبكاء والندب كرهت تحريما.
ومن آداب الزيارة أن يزورها الإنسان قائما مستدبر القبلة مستقبلا بوجهه الميت، وأن يسلم على أهل القبور، ولا يمسح القبر ولا يمسه فضلا عن أن يقبله، ويدعو عنده قائما بما علم رسول الله أصحابه الدعاء به عند الزيارة، وأن ينصرف عقب ذلك، وقد كان ابن عمر يجئ إلى قبر الرسول فيقول السلام على النبى.
السلام على أبى بكر.
السلام على أبى وينصرف وكذلك أنس بن مالك. ولا بأس أن يقرأ سورة يس لحديث من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات (بحر) وأن يقرأ من القرآن ما تيسر له من الفاتحة وأول البقرة وآية الكرسى وآخر البقرة من قوله تعالى {آمن الرسول} وسورة يس وتبارك (الملك) والتكاثر والإخلاص ثم يقول اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان أو إليهم (ابن عابدين) وفى المغنى ولا بأس بالقراءة عند القبر وقد روى عن أحمد أنه قال إذا دخلتم المقابر فاقرءوا آية الكرسى وثلاث مرات {قل هو الله أحد} الإخلاص ١، ثم قولوا اللهم إن فضله لأهل المقابر.
وفى رواية الإحياء (إذا دخلتم المقابر فاقرءوا الفاتحة والمعوذتين وقل هو الله أحد.
واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم) انتهى - وما روى عن أحمد من قوله.
إن القراءة عند القبر بدعة قد رجع عنه كما ذكره ابن قدامة الحنبلى، وأفضل أيام الزيارة يوم الجمعة، وقيل هو ويوم قبله ويوم بعده.
وقد ذكر فى زاد المعاد أن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم يوم الجمعة فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم ويسلم عليهم.
وروى محمد بن واسع أن الموتى يعلمون زوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده، ولا يخفى أن وصول ثواب القراءة إلى الميت لا يتوقف على أن تكون حال الزيارة بل يصل الثواب إليه مطلقا، وقد قال ابن القيم فى كتاب الروح (وأما قراءة القرآن وإهداؤها إلى الميت تطوعا بغير أجر فهذا يصل إليه كما يصل إليه ثواب الصوم والحج) فكما أن ثواب الصوم والحج عنه يصل إليه وهما لا يكونان حال الزيارة كذلك يصل إليه ثواب القراءة مطلقا سواء كانت عند القبر أو بعيدة عنه.
ويؤيد هذا ما سبق نقله عن كثير من الفقهاء، وقول ابن القيم فى زاد المعاد إن قراءة القرآن للميت عند القبر أو غيره بدعة مكروهة ينافى ما ذكره نفسه فى كتاب الروح.
وما ذكره غيره من الفقهاء خلا أبا حنيفة الذى روى عنه القول بكراهة القراءة عند القبر.
والذى ينبغى التعويل عليه ما ذكره فى كتاب الروح، وأى فرق بين قراءة القرآن له.
والصلاة والصوم والحج والدعاء والاستغفار له وكلها طاعات يرجى من الله أن يجعل ثوابها للميت إذا جعلها الفاعل له، ولا حرج على الله فى فعله وفضله.
وجملة القول فى الزيارة أنه يجب اتباع هدى النبوة فى آدابها وتجريدها من المآثم حتى تقع فى موقعها الشرعى.
اللهم اجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
وفقهنا فى الدين ولا تحرمنا أجر العاملين.
واهدنا الصراط المستقيم. وصل وسلم على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين.
تم تحرير هذه التعليقات بعون الله تعالى فى يوم الجمعة ١٣ من شوال سنة ١٣٦٦ (٢٩ من أغسطس سنة ١٩٤٧) بيد الفقير إلى الله تعالى.
حسنين محمد مخلوف مفتى الديار المصرية