للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[عاشوراء]

المفتي

عطية صقر.

مايو ١٩٩٧

المبادئ

القرآن والسنة

السؤال

هل صحيح أن صوم يوم عاشوراء كان مفروضا قبل رمضان، وما هى حكمة صيامه، وهل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى بالتوسعة على العيال فيه؟

الجواب

يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم أول شهور التقويم الهجرى-دخل التاريخ من أوسع أبوابه منذ بدء الخليقة كما تحكى الروايات التى لا يصمد أكثرها أمام النقد العلمى عند رجال الحديث.

ويهمنا من هذه الأبواب بابان كان لكل منهما أثره فى-تحول مجرى التاريخ الدينى والتشريعى فى اليهودية والإسلام، أحدهما يوم أن نجى الله موسى عليه السلام وجماعته الإسرائيليين، وأغرق فرعون وقومه الظالمين، وكان يوما فاصلا بين عهدين فى تاريخ اليهود، عهد ذاقوا فيه العذاب ألوانا حين كانوا تحت حكم فرعون، كما يذكرهم الله به فى قوله {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} .

البقرة: ٤٩، ٥٠، وعهد التحرر والاتجاه إلى تأسيس مجتمع مستقل ما لبث أن تقلبت به الأحداث ما بين صعود وهبوط واجتماع وتفرق كما قضى بذلك رب العزة فى كتابه وسجله القرآن الكريم فى أوائل سورة الإسراء {وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} روى البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون عاشوراء فقال لهم " ما هذا الذى تصومونه " فقالوا: هذا يوم عظيم، نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه وأمر بصيامه حتى جاء فرض صيام رمضان فبقى صيام يوم عاشوراء مندوبا.

وإذا كان الخبر الصحيح يشرع صومه شكرا لله على نجاة موسى، فإن تحديد هذا اليوم وربطه بنجاة آبائهم هو خبر اليهود كما جاء فى كتبهم التى توارثوها، والثابت فى الصحيحين أيضا عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء قبل هجرته من مكة إلى المدينة اتباعا لقريش فى صيام هذا اليوم فى الجاهلية، ويعلل عكرمة صيام قريش له بأنهم أذنبوا ذنبا فى الجاهلية فعظم فى صدورهم فقيل لهم:

صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب، فهل كان ذلك تقليدا لليهود فى صيام يوم الكفارة "يوم كبور" أو بناء على شرع سابق؟ والمعروف أن شرعة إبراهيم وإسماعيل التى كانت فى مكة هى أسبق من الشريعة التى جاءت بها توراة موسى الذى نجاه الله من فرعون وقومه. روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه. فلما قدم المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال "من شاء صامه ومن شاء تركه ".

إن الذى يهمنا كمسلمين أن صوم يوم عاشوراء بقى مندوبا كسائر الأيام التى يندب فيها الصيام، ولم يكن يأبه له أحد من المسلمين بأكثر من أن الصيام فيه له فضله الذى ورد فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم "يكفر السنة الماضية " وجرى الأمر على ذلك فى عهد الخلفاء الراشدين حتى كان يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة، وهو اليوم الذى استشهد فيه الحسين بن على رضى الله عنهما فى كربلاء، فدخل يوم عاشوراء التاريخ مرة أخرى من باب واسع عمَّق الشعور بالتشيع لآل البيت.

وعلى الرغم من مرور أربعة عشر قرنا على هذا الحادث فإن آثاره ما زالت باقية تظهر فى الاحتفال بذكراه، فهو فى إيران والعراق وغيرهما يوم حزن عميق لا داعى لوصف مظاهره، وهو فى بلاد المغرب وغيرها من البلاد التى تبرر ما صنعه رجال البيت الأموى للاحتفاظ بالسلطان يوم فرح وهدايا وتوسعة وترفيه بالحلوى وكل ما لذَّ وطاب [مجلة العربى التى تصدر بالكويت ١٩٦٢، مجلة الإيمان التى تصدر بالمغرب - محرم وصفر ١٣٨٤ هـ] .

وفى ظل هذه العواطف ظهرت بدع واخترعت أقاويل وحكايات، بل وضعت أحاديث على النبى صلى الله عليه وسلم تشجع الأولين على المبالغة فى الأسى والحزن، وتشجع الآخرين على المبالغة فى الفرح والسرور، ونكتفى بهذا القدر فى بيان استغلال يوم عاشوراء استغلالا سياسيا لنعرف مدى صحة ما يقال إن التوسعة على العيال فى يوم عاشوراء أثر من آثار النزاع بين البيت الأموى والهاشمى فنقول:

جاء فى كتاب شرح الزرقانى على المواهب اللدنية للقسطلانى "ج ٨ ص ١٢٣ " أن الحديث الذى يقول: "من وسع على عياله فى يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها" رواه الطبرانى والبيهقى وأبو الشيخ، وقال البيهقى إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، قال العراقى فى أماليه: لحديث أبى هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ، وأورده ابن الجوزى فى الموضوعات.

وذلك لأن سليمان بن أبى عبد الله الراوى عن أبى هريرة مجهول، لكن جزم الحافظ فى تقريبه بأنه مقبول، وذكره ابن حبان فى الثقات والحديث حسن على رأيه. قال العراقى: وله طرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر فى "الاستيعاب " وهى أصح طرقه.

رواه ابن عبد البر والدارقطنى بسند جيد عن عمر رضى الله عنه موقوفا عليه.

قد يقال: إذا كان الصوم شعيرة عاشوراء، وهو يقوم على الزهد والتقشف فكيف يتفق ذلك مع التوسعة على العيال والأهل؟ لئن كانت هناك توسعة فلتكن على الفقراء كالبر فى رمضان، ومهما يكن من شىء فان التوسعة مندوبة وأفضل دينار ينفقه الإنسان بعد نفسه هو على أهله، وكل ذلك فى حدود الوسع، ورأى بعض المفكرين أن " العيال " المذكورين فى هذا الحديث هم عيال الله وهم الفقراء، وهنا تظهر الحكمة فى التوسعة مع الصيام. وجاء فى الزرقانى أيضا أن ما يذكر من فضيلة الاغتسال فيه والخضاب والادهان والاكتحال ونحو ذلك فبدعة ابتدعها قتلة الحسين كما صرح به غير واحد.

هذا، والأولى الاقتصار على ما جاء فى الحديث من أن صيامه يكفر ذنوب سنة، كما يسن صيام يوم التاسع أيضا لحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال - "إذا كان العام المقبل -إن شاء الله -صمنا اليوم التاسع " قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أحمد "خالفوا اليهود صوموا يوما قبله ويوما بعده ".

وقد ذكر العلماء أن صيام عاشوراء على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى صوم ثلاثة أيام: التاسع والعاشر والحادى عشر.

والمرتبة الثانية صوم التاسع والعاشر، والمرتبة الثالثة صوم العاشر وحده.

وموضوع صيام عاشوراء مبسوط فى كتاب "زاد المعاد لابن القيم ج اص ١٦٤ وما بعدها.

هذا، وقد جاء فى الترمذى بإسناد حسن أنه قد يكون هو اليوم الذى تاب فيه على قوم ويتوب على آخرين، ولكن ليس فى الحديث تعيين لهذا اليوم ولا لهؤلاء الأقوام، وصح من حديث أبى إسحاق عن الأسود ابن يزيد قال: سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء فقال:

المحرم شهر الله الأصم، فيه يوم تيب فيه على آدم، فإن استطعت ألا يمر بك إلا وأنت صائم فافعل [تفسير القرطبى ج اص ٣٢٤] وهو حديث غير مرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم.

وجاء فى مسند أحمد أنه ربما يكون هو اليوم الذى استوت فيه سفينة نوح على الجودى.

ولا أعلم درجة هذا الحديث،كما جاء فى الكتب حوادث أخرى فى يوم عاشوراء ليس لها سند صحيح، منها مولد الخليل إبراهيم ومولد موسى ومولد عيسى، وبردت فيه النار على إبراهيم، ورفع العذاب عن قوم يونس، وكشف الضر عن أيوب، ورد البصر على يعقوب، وأخرج يوسف من الجب، ويوم الزينة الذى غلب فيه موسى السحرة.

تتمات.

ا -صيام النبى يوم عاشوراء فى مكة كان كصيام قريش لمتابعتهم فى الخير كمتابعتهم فى الحج ولم يأمر به أصحابه، وصامه بعد الهجرة لما وجد اليهود يصومونه قال العلماء: إن صيامه فى المدينة كان بوحى أو باستدامة صيامه فى مكة وزاد تأكيده بشكر الله على نجاة موسى. وليس صيامه متابعة لليهود فى شريعتهم، وقال بعضهم:

إنه اجتهاد من النبى صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ولعل هذا من باب تأليف قلوبهم كالتوجه إلى بيت المقدس فى الصلاة. وكانت هذه الموافقة فى أول الإسلام، فلما فتحت مكة وقوى الإسلام خالف أهل الكتاب، بل أمر بمخالفتهم فى شكل الصيام لا فى أصله، ودليل ذلك أنه فى أواخر حياته - وكان يصوم عاشوراء استحبابا ويصومه أصحابه -قيل له: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال - كما رواه مسلم - "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " فلم يأت العام المقبل حتى توفى.

٢ -تكفير الذنوب بصيام عاشوراء المراد بها الذنوب الصغائر، وهى ذنوب سنة ماضية أو آتية إن وقعت من الصائم، فإن لم تكن صغائر خفف من الكبائر، فإن لم تكن كبائر رفعت الدرجات. أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة النصوح، وقيل يكفرها الحج المبرور، لعموم الحديث المتفق عليه "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ".

٣-قال النووى: اختلف فى حكم صوم عاشوراء فى أول الإسلام حين شرع قبل رمضان، فقال أبو حنيفة كان واجبا لظواهر الأحاديث، ولأصحاب الشافعى وجهان: وجه كأبى حنيفة، والأشهر أنه لم يزل سنة حين شرع، لكن كان متأكد الاستحباب، فلما فرض رمضان صار استحبابه أقل من الأول، ويظهر الخلاف فى النية هل يجب تبييتها أو تمكن قبل الزوال؟ الله أعلم بما كان عليه الصحابة حينذاك، ولا أثر له الآن.

هذا، وقد ثبت فى الصحيحين أن ابن مسعود أفطر يوم عاشوراء، ولما سئل قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل صوم رمضان، فلما نزل رمضان تركه، والتفسير الصحيح لفعل ابن مسعود وقوله أن صوم عاشوراء ترك النبى صلى الله عليه وسلم وجوبه بعد فرض صيام رمضان، وبقى مستحبا كما تدل عليه الروايات الأخرى، والموضوع طويل يراجع فى زاد المعاد لابن القيم "ج اص ١٦٤ "

<<  <  ج: ص:  >  >>