[يونس عليه السلام]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
جاء فى الآيات التى تتحدث عن سيدنا يونس عليه السلام، أنه غضب وظن أن الله لا يقدر عليه، فكيف يتناسب ذلك مع مقام الأنبياء؟
الجواب
سيدنا يونس عليه السلام هو يونس بن مَتَّى من الأنبياء الذين ورد ذكرهم فى القرآن الكريم باسمه وبوصفه بذى النون وبصاحب الحوت، والنون هو الحوت، وكان رسولا إلى أهل "نينوى" بالعراق، وكرمه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله كما فى الصحيحين "ما ينبغى لعبد أن يقول:
أنا خير من يونس بن متى".
ويستفاد من الآيات التى تحدثت عنه أنه دعا قومه وخوَّفهم من عقاب الله إن لم يؤمنوا، ثم تركهم غاضبا من موقفهم منه، وتوجه إلى مكان اخر، فركب سفينة كانت مشحونة كادت تغرق بحملها، وعند الاقتراع على من يتخلصون منه فداء للباقين وقع السهم على يونس، وانتهى الأمر إلى إلقائه فى البحر، فالتقمه حوت ومكث فى بطنه مدة لا يعرف قدرها بالضبط، وسبح ربه داعيا، فنجاه الله وطرحه الحوت على الشاطئ مُتعَبًا، فأنبت له شجرة من يقطين، وهو القرع، أوكل زرع ليس له ساق، وبعد ذلك أرسله إلى قوم عددهم مائة ألف أو يزيدون، يقال: إنهم هم الأولون الذين غضب منهم، ويقال إنهم غيرهم، ومتعهم الله إلى حين آجالهم.
والذى يلفت النظر فى قصة يونس، مما يمس عصمة الأنبياء، قوله تعالى {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} الأنبياء: ٨٧، فمن الذى غاضبه يونس؟ وكيف يظن أن الله لن يقدر عليه؟ كما أن قوله تعالى منه {فالتقمه الحوت وهو مليم} الصافات: ١٤٢، يدل على ارتكابه ما يلام عليه، وقول يونس فى دعائه {سبحانك إنى كنت من الظالمين} الأنبياء: ٨٧، يدل على أنه ارتكب شيئا منهيًا عنه، وتحذير الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} القلم: ٤٨، يدل على أن فى يونس أمرا غير مرضى عنه، فكيف ذلك؟ والجواب: أن يونس لما رأى معارضة قومه تركهم مغاضِبًا لهم لا مغاضبا لله، وليست مغاضبة لهم لأمر شخصى، بل خالصة لله. وليس فى ذلك عيب يؤاخذ عليه.
وقد يقال: إذا لم يكن فى المغاضبة بهذه الصورة ما يؤاخذ عليه فكيف يمتحنه الله هذا الامتحان الخطير بابتلاع الحوت له؟ والجواب أن الامتحان كان لتعجله بمفارقتهم وعدم انتظار أمر من الله، وكان الأولى أن ينتظر، وإن كان له العذر فى أنه اجتهد وأداه اجتهاده إلى ذلك، لكن عتاب الله لأوليائه المقربين قد يكون على ما يتسامح فيه مع الأشخاص العاديين. ومما يدل على أن العتاب كان للتعجل بالهجرة- أمْرُ الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله قومه ونهيه أن يكون كيونس فى عدم الصبر.
على أن بعض العلماء رأى أن هذه المغاضبة كانت قبل أن يرسله الله، فتركهم إلى جهة أخرى، وكان الأجدر به كمصلح أن يبقى معهم.
ويشفع لرأيهم قول ابن عباس رضى الله عنهما: إن رسالة يونس كانت بعد نجاته من البحر.
أما ظن يونس أن الله لن يقدر عليه فليس فيه نسبة العجز إلى الله، ولكن القَدْرَ- بسكون الدال - هنا يعنى التضييق، كقوله تعالى {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} الطلاق: ٧، وقوله {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} الرعد: ٢٦، فيونس ظن، والظن قد يراد به اليقين كما جاء فى آيات كثيرة، ظن أن الله لن يضيق عليه واسعا، وسيبدله قوما غير قومه، وليس فى ذلك ما يعاب عليه.
هذا، وشهادة الله ليونس بقوله {فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} القلم: ١٥٠ تنبهنا إلى عدم اتهامه بما يتنافى مع هذه الشهادة العظيمة.
وفى قصة يونس عليه السلام عبر، منها أن المتصدى للإصلاح يلزمه الصبر والتحمل وسعة الصدر بالأمل، وأن المؤمن إذا صدق فى عبادته ودعائه استجاب الله له ونجاه من أخطر المهالك. وأن لله مع أوليائه تصرفات لا تخضع لقانون الأسباب والمسببات كالمعجزات والكرامات، وأن بعض التسبيح والدعاء خير وأقوى من البعض الآخر، ومنه دعاء يونس فى بطن الحوت {لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين} الأنبياء: ٨٧، ٨٨، ولذلك قال بعض العلماء استنادا إلى مأثورات نبوية: إن اسم الله الأعظم الذى إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعى به أجاب هو دعاء يونس عليه السلام. وهو ليس خاصا به، بل هو عام لكل مسلم كما قال سبحانه عقبة {وكذلك ننجى المؤمنين}