[السنة النبوية]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
نريد إلقاء الضوء على الجهود التى قام بها المسلمون للمحافظة على السنة النبوية من جهة السند والمتن، وما يجب علينا نحوها فى هذه الأيام؟
الجواب
السنة النبوية لها عدة معان فالسنة فى اللغة: هى الطريقة والمنهج، منها قول النبى صلى الله عليه وسلم "فعليكم بسنتى، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين "رواه الترمذى وغيره وقال: حسن صحيح أى طريقتى- والسنة فى اصطلاح الفقهاء هى ما يثاب المرء على فعله ولا يعاقب على تركه كصلاة الضحى مثلا، والسنة فى اصطلاح المحدِّثين هى ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو وصفا أو تقريرا. وهناك أهل السنة عند المتكلمين فيما يقابل الطوائف الأخرى، وتحقيق هذه السنة أى المحافظة عليها وإخراج الدخيل منها ودفع الشبه عنها، والاحتراس عند روايتها، هذا التحقيق بدأه النبى صلى الله عليه وسلم لأن القرآن كان إذا نزلت منه آيات أو سورة، أمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما نزل ونهى أولا عن كتابة الحديث حتى لا يختلط كلامه بكلام الله سبحانه. ثم بعد ذلك رخَّص لبعض الصحابة فى كتابة الأحاديث كعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه، والصحابة عندما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى احتاجوا فى بعض الأحيان إلى أحكام فقهية لم يجدوها فى كتاب الله تعالى فكان يسأل بعضهم بعضا هل سمع فى هذه الحادثة شيئا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وقبل أن يلحق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى قال هذا الحديث "من كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخارى ومسلم، وهذا هو الأصل فى تحقيق السنة، فكان الصحابة يتحرَّجون كثيرا من رواية السنة، وكان لبعض الخلفاء مواقف شديدة ضد الذين يكثرون من روايتها وموقف عمر رضى الله عنه معروف من أبى هريرة وابن مسعود، وأبى مسعود الأنصارى.
استأذن أبو موسى على عمر ثلاث مرات فلم يؤذَن له فولَّى، فناداه عمر وقال: "لم ولَّيت "؟ فذكر له أنه سمع حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم يفيد هذا المعنى "إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له فليرجع " رواه البخارى ومسلم فقال: والله لا أتركك حتى تأتى لى بمن يشهد معك أنك سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه حتى جاء بمن شهدوا معه أن هذا القول منسوب إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وسيدنا أبو بكر رضى الله عنه كما قرأت فى كتاب تاريخ التشريع للشيخ محمد الخضرى، جمع الصحابة أو نادى فى الصحابة وحذرهم من أن يحدثوا عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث يختلفون فيها فالناس بعدهم أشد اختلافا.
وإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عندما أرسل بعض الصحابة إلى الأمصار قال لهم: "إنكم ستأتون قوما عكفوا على كتاب ولهم بقراءته دوى كدوى النحل، لا تشغلوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
مرت الأيام والصحابة والتابعون يعرفون أنهم فى حاجة إلى معرفة بعض الأحكام المأثورة عن النبى صلى الله عليه وسلم ونحن نعلم أن السنة قد جاءت بأمور ليست مذكورة فى القرآن الكريم، كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وتحريم لحوم الحمر الأهلية وغير ذلك، والله سبحانه وتعالى قد أعطى التفويض للرسول عليه الصلاة والسلام فى أن يبين للناس ما نزل إليهم وهذا التفويض مذكور فى عدة آيات منها قوله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} الحشر: ٧، وقوله {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} التغابن: ١٢، وقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} النساء: ٨٠، اشتدت الحاجة إلى معرفة ما أُثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام كلما تقدم الزمن ففكر بعض الولاة أو بعض الأمراء فى جمع ما يمكن من هذه الأحاديث، وكان ذلك فى أيام عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه.
وظهر فى هذا المجال ابن شهاب الزهرى وجمع ما استطاع أن يجمعه من كلام النبى صلى الله عليه وسلم أو من المأثور عنه، وظهر بعد ذلك الإمام مالك رضى الله عنه ودوَّن فى موطئه ما استطاع من الأحاديث وأقوال الصحابة، ثم جاء أحمد بن حنبل رضى الله عنه وعُنِىَ عناية كبيرة بجمع الأحاديث والبحث في فقهها، ثم انتهى الأمر إلى البخارى ومسلم فى تصيد الأحاديث الصحيحة وتدوينها، وقد دوَّنا فى صحيحيهما ما كان فى أعلى درجات الصحة بحسب المقاييس التى وضعت لقبول الحديث، والذى عمل على ذلك أنهم رأوا أن أحاديث كثيرة وضعت على النبى صلى الله عليه وسلم لأغراض سياسية، أو لأغراض مذهبية وبعضها وضع كما يقول المؤرخون لأغراض شرعية بحسن نية كأحاديث الترغيب فى فضائل الأعمال أو فى سور القرآن الكريم، فلما كثرت هذه الأحاديث، كان جهد البخارى ومسلم وأمثالهما لتنقية أو لاصطفاء ما تطمئن إليه قلوبهم من هذه الأحاديث الكثيرة، ومن الظواهر الخطيرة فى التلبيس على الناس ليعتقدوا أن ما يروونه هو منسوب إلى النبى أنهم كانوا يأتون ببعض الأسانيد الموثوق بها ثم يضعون لها حديثا من عند أنفسهم، وفى هذا الجو وضع أو نُظم فن مصطلح الحديث، الذى عُنى بنقد أحوال الرواة، وظهرت كتب الجرح والتعديل بهذه الموازين الدقيقة ذات المراتب التى يعجب الإنسان لها، وما كانوا يحكمون على راو من الرواة بأنه صادق، أو حجة، أو لا بأس به، أو يؤخذ منه ويترك إلا بعد ممارسة ومعايشة ودقة فى معرفة أحوال هؤلاء الناس، وقد سمعنا أن الإمام البخارى كان لا يطمئن لحديث سمعه من أحد إلا إذا عامله أو سأل عنه من يثق به وربما سافر مسافات طويلة حتى يعايش هذا الإنسان، وكان لا يكتب حديثا كما سمعنا فى سيرته إلا إذا استخار الله سبحانه وتعالى وصلى ركعتين حتى يطمئن قلبه إلى ما يكتبه واصطفى ذلك من أحاديث كثيرة صحيحة ولكنه اختار أصح ما يمكن فى نظره.
عند هذا القرن الرابع الهجرى وبعده أيضا وجدت كتب أخرى تجمع الأحاديث، بعد هذه الكتب المشهورة المعروفة صحيح البخارى، ومسلم والموطأ ومسند أحمد، والسنن الأربعة، وصحيح ابن حبان، وابن خزيمة وغيره، بعد هذه الكتب أصبح الناس عالة عليها فى رواية حديث النبى صلى الله عليه وسلم.
وهناك نقطة هامة جدا هى: ماذا نعمل فى بعض الأحاديث التى يكون ظاهرها متناقضا إما مع القرآن الكريم وإما مع بعض المرويات من السنن وإما مع مقررات العقل والدين؟ هذه نقطة خطيرة هى التى نحتاج إليها فى هذه الأيام، أما السند فقد انتهينا منه والكتب موجودة، هذه النقطة مهمة جدا وهى البحث فى متن الحديث، لأن المتن أحيانا كان يركب على سند موثوق به، والله أعلم بصحة هذا المتن ونسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
قام ابن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث وبحث فى بعض هذه الأحاديث التى فيها خلاف أو تناقض مع أحاديث أخرى، وقام بجهد مشكور فى هذا المجال، لكننا محتاجون فى هذه الأيام بالذات إلى مقابلة ما يأتى فى بعض الأحاديث مناقضا لبعض الأحاديث الأخرى، وما يأتى من الأحاديث فى ظاهره أنه مناقض لما وجد فى الكتاب والسنة، وفى ظاهر بعضها أنه مناقض للعلم، لأن هناك حملات شرسة كبيرة جدا على السنة، حملة أتت من جهة السند من الذين يشككون فى الرجال بل يشككون فى الصحابة أيضا، وكم أثاروا من خلافات وكتبوا كتبا قد تنزع الثقة من هؤلاء الأبطال الذين نقلوا إلينا الأحاديث والذين نقلوا إلينا القرآن الكريم، وهى خطوة فى الشك أيضا فى الطرق الذى حمل إلينا القرآن الكريم.
وهناك من يطعن فى بعض الأحاديث العلمية التى جاءت عن النبى صلى الله عليه وسلم.
وأرجو أن يتابع المهتمون هذه الدراسات، حتى تخلص لنا أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم وحتى يطمئن المسلمون إليها.
راجع مقدمة "المغنى عن الحفظ والكتاب " للموصلى، هدية مجلة الأزهر- ذى القعدة ١٤٠٣ هـ