[اللهم أحينى مسكينا]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يعيش مسكينا، وهل يتناسب هذا مع قوة الإسلام وعموم رسالته وخلودها الذى لا يتم على يد المساكين؟
الجواب
روى ابن ماجه،والحاكم وصححه عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت - رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم أحينى مسكينا، وتوفنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين " ورواه الترمذى عن أنس وقال:
حديث غريب، أى رواه راو واحد فقط.
وجاء فى حديث للترمذى وحسَّنه قول النبى صلى الله عليه وسلم" اللهم إنى أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ". وروى البخارى ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون " والجد هو الغنى.
هذه الأحاديث تدل على حب النبى صلى الله عليه وسلم للمساكين، ويعلل ذلك بأمور:
أولها: مشاركتهم وجدانيا وتيسير وقع الفقر عليهم، حتى لا يدخل قلوبهم شك أو تطلع إلى الدنيا وافتتان بها عن الآخرة، وبخاصة أن أكثر من آمنوا به من المساكين، وأكثر من قاوموا الدعوة كانوا من الأغنياء الجبارين، وفى ذلك دعوة الأغنياء للعطف عليهم.
ثانيها: لفت أنظار الأغنياء إلى عدم الفتنة بالمال، وليس ذلك نهيا عن جمع المال وإنفاقه فى حله، ففى الحديث الذى رواه أحمد بسند جيد عن عمرو بن العاص " نعم المال الصالح للعبد الصالح ".
ثالثها: أن المساكين أقل الناس حسابا إذا اتقوا ربهم فى أعمالهم، لأنهم لا يكونون كالأغنياء الذين يحاسبهم اللَّه على نعمه كيف جحدوها وكيف أنفقوها، والمساكين من أجل هذا سيسبقون إلى دخول الجنة، لعدم طول حسابهم على ما في أيديهم.
هذا، وليس المراد من هذه الأحاديث دعوة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المسكنة والفقر الماديين، فهناك فرق بين شعور العطف والرحمة على المساكين، والدعوة إلى الفقر، كيف وهو صلى الله عليه وسلم لا يحب الفقر الذى تذل به النفس ويمرض الجسم ويعوق عن أداء الواجبات ويغرى بالسوء؟ ، كما كان يستعيذ من الغنى الذى يبطر ويصرف عن الخير ويدعو إلى الفساد، لقد استعاذ من الكفر والفقر كما رواه أبو داود وقال " اللهم اقض عنا الدين وأغننا من الفقر " كما رواه مسلم، وقال أيضا " اللهم اكفنى بحلالك عن حرامك، وأغننى بفضلك عمن سواك " كما رواه الترمذى وحسَّنه، وكثيرا ما سأل ربه العفاف والغنى. والغنى وإن كان يقصد به غنى النفس فهو أيضا يقصد به غنى المال الذى يعرف فيه حق الله، ويكون وسيلة للعفة عن الحرام، وعزة المسلمين لا تتوقف على الغنى المادى فقط، فكم من أمم بلغت فى الغنى الذروة فأهلكها الله لمعصيتها وبخلها وشرها.
ومقومات العزة الإسلامية فى العصور الأولى كانت تعتمد على القوة فى العقيدة والخلق، كما تعتمد على قوة المال، وكان تفوقهم على الدول المجاورة لهم ليس بالمال ولكن بالدين، والدين لا يمنع من المال ما دام يوجه للخير، لا يقصد بهذه الأحاديث دعوة إلى المسكنة الذليلة، فإن العزة قد تكون مع رقة الحال كعزة المسلمين الأول، والذلة قد تكون مع كثرة المال كذلة اليهود بدناءة نفوسهم ورضاهم بالهوان فى سبيل الحصول على المال.
ومع كل هذا لا ننسى أبدا قول اللَّه سبحانه {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللَّه لكم ولا تعتدوا إن اللَّه لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم اللَّه حلالا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون} المائدة: ٨٧، ٨٨، وقوله {يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. قل من حرم زينة اللَّه التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف: ٣١،٣٢٠.
وأما حديث " إن كنت تحبنى فأعد للفقر تجفافا، فإن الفقر إلى من يحبنى أسرع من السيل إلى منتهاه " وذلك عندما قال له رجل: إنى أحبك، فقال له: " انظر ما تقول " فقال والله إنى أحبك، " ثلاث مرات " رواه الترمذي وقال:
حديث حسن - فالمراد به التنبيه إلى عدم الأمن من غدر الزمان {وتلك الأيام نداولها بين الناس} آل عمران: ١٤٠.
وأساليب الامتحان كغيرة، قال تعالى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} الأنبياء:٣٥، والمؤمن الصادق يتقلب فى حياته بين الشكر والصبر، فهو فى خير دائم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " رواه مسلم.
أو لعل النبى صلى الله عليه وسلم أراد بقوله هذا لمن يحبه أن يكون مثله فى الزهد فى الدنيا وعدم تعلق الآمال العريضة بها، أو يلفت نظره ألا يكون مثل بعض الفقراء الدين رغبوا فى الإسلام طمعا فى خير يعطيه لهم النبى صلى الله عليه وسلم كمن نزل فيهم قوله تعالى {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما بدخل الإيمان فى قلوبكم} الحجرات: ١٤، هذا، والتجفاف شيء يلبسه الفرس ليتقى به الأذى، وقد يلبسه الإنسان