[تعجيل موت الميئوس من شفائه]
المفتي
عطية صقر.
مايو ١٩٩٧
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز قتل المريض بفقد المناعة "الإيدز"؟
الجواب
من المقرر شرعا وعقلا أن قتل النفس جريمة من أكبر الجرائم ما دام لا يوجد مبرر لذلك، والنصوص فى ذلك أشهر من أن تذكر، يكفى منها قوله تعالى عن الشرائع السابقة {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} المائدة: ٣٢، وقوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التى حرم اللَّه إلا بالحق} الأنعام: ١٥١ والإسراء: ٣٣، وقوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} النساء: ٩٣،.
والقتل الجائز هو ما كان بالحق، كالدفاع عن النفس والمال والعرض والدين والجهاد فى سبيل الله، وما نص عليه الحديث الذى رواه البخارى ومسلم وغيرهما بألفاظ متقاربة "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزانى والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وهناك مسائل أخرى يجوز فيها القتل تطلب من مظانها.
والمريض أيا كان مرضه وكيف كانت حالة مرضه لا يجوز قتله لليأس من شفائه أو لمنع انتقال مرضه إلى غيره، ففى حالة اليأس من الشفاء - مع أن الآجال بيد الله، وهو سبحانه قادر على شفائه -يحرم على المريض أن يقتل نفسه ويحرم على غيره أن يقتله حتى لو أذن له فى قتله، فالأول انتحار والثانى عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلل الحرام فهو لا يملك روحه حتى يأذن لغيره أن يقضى عليها والحديث معروف فى تحريم الانتحار عامة، فالمنتحر يعذب فى النار بالصورة التى انتحر بها خالدا مخلدا فيها أبدا، إن استحل ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود فى العذاب،،وإن لم يستحله عذب عذابا شديدا جاء التعبير عنه بهذه الصورة للتنفير منه. روى البخارى ومسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات " قال اللَّه تعالى "بادرنى عبدى بنفسه، حرمت عليه الجنة" وفى رواية لهم أن رجلا مسلما قاتل فى خيبر قتالا شديدا ومات، فلما أخبر به الرسول قال "إنه من أهل النار" فعجب الصحابة لذلك، ثم عرفوا أنه كان به جراح شديد فلم يصبر عليه، فوضع نصل سيفه بالأرض وجعل ذبابه -أى طرفه -بين ثدييه ثم تحامل على نفسه حتى مات، وتقول الرواية إن الرسول أمر بلالا أن ينادى فى الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وقد ألفت فى إنجلترا جمعية باسم "القتل بدافع الرحمة" طالبت السلطات سنة ١٩٣٦ م بإباحة الإجهاز على المريض الميئوس من شفائه، وتكرر الطلب فرفض، كما تكونت جمعية لهذا الغرض فى أمريكا وباء مشروعها بالفشل سنة ١٩٣٨، وما زالت هذه الدعوة تكسب أنصارا فى هذه البلاد.
فالخلاصة أن قتل المريض الميئوس من شفائه حرام شرعا حتى لو كان بإذنه، فهو انتحار بطريق مباشر أو غير مباشر، أو عدوان على الغير إن كان بدون إذنه، والروح ملك لله لا يضحى بها إلا فيما شرعه الله من الجهاد ونحوه مما سبق ذكره.
أما المريض الذى يخشى انتقال مرضه إلى غيره بالعدوى حتى لو كان ميئوسا من شفائه فلا يجوز قتله من أجل منع ضرره، ذلك لأن هناك وسائل أخرى لمنع الضرر أخف من القتل ومنها العزل ومنع الاختلاط به على وجه ينقل المرض، فوسائل انتقال المرض متنوعة وتختلف من مرض إلى مرض، وليس كل اختلاط بالمريض بِفقد المناعة "الإيدز" محققا للعدوى، فهى لا تكون إلا باختلاط معين كما ذكره المختصون فالإجراء الذى يتخذ معه هو منع هذه الاتصالات الخاصة، مع المحافظة على حياته كآدمى يقدم إليه الغذاء حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وعدم الاختلاط بالمريض مرضا معديا، أى العزل أو الحجر الصحى، مبدأ إسلامى جاء فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم" فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" رواه البخارى وقوله "إذا سمعتم بالطاعون فى أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" والله سبحانه يقول {خذوا حذركم} النساء:
٧١، وفى الحديث الذى رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن "لا ضرر ولا ضرار".
فالمريض بالإيدز على فرض اليأس من شفائه - لا يجوز قتله منعا لضرره عن الغير، فمنع الضرر له وسائل أخرى غير القتل ولا يقال إنه يستحق القتل، لأنه ارتكب منكرا نقل إليه هذا المرض، فليس كل منكر حتى لو كان اتصالا محرما يوجب القتل، فهناك شروط موضوعة لإقامة حد الرجم "القتل " على مرتكب الفاحشة، كما أن هناك وسائل لانتقال المرض إليه ليست محرمة وربما لا يكون له فيها اختيار، كنقل دم مريض به دون علم، أو غير ذلك.
وعلى العموم لا يصح قتل المريض بالإيدز أو بغيره، لا لليأس من شفائه، ولا لمنع انتقال المرض منه إلى غيره، فالله على كل شيء قدير، ووسائل الوقاية متعددة، وقد يكون بريئا من ارتكاب ما سبب له المرض، فهو يستحق العطف والرحمة، ومداومة العلاج بالقدر المستطاع، جاء فى الحديث الذى رواه الترمذى "يا عباد اللَّه تداووا، فان الله لم يضع داء إلا وضع له دواء" وفى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم "ما أنزل اللَّه من داء إلا أنزل له شفاء" وفى الحديث الذى رواه أحمد "إن اللَّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله "وجاء فى بعض روايات أحمد استثناء " الهرم " فإنه ليس له شفاء.
وهذه الأحاديث تعطينا أملا فى اكتشاف دواء لهذا المرض، كما اكتشفت أدوية لأمراض ظن الناس أن شفاءها ميئوس منه، فلا يصح قتل حامله لليأس من شفائه، ولا لمنع الضرر عن الأصحاء، حيث لم يتعين القتل وسيلة له، فالوسائل المباحة موجودة، وعليه فليست هناك ضرورة أو حاجة ملحة حتى يباح لها المحظور، ولا محل أيضا لقياس قتله على إلقاء أحد ركاب السفينة فى البحر لإنقاذ حياة الباقين، تقديما لحق الجماعة على حق الفرد، أو على قتل المسلم الذى تترس به العدو للتوصل إلى قتله. فذلك وأمثاله تحتم الإغراق والقتل وسيلة، فأبيح للضرورة والأمر فى منع العدوى ليس كذلك