لكن لا بدّ أن يُعلم أن الفطرة لا تكفي وحدها لهداية الناس، فالشريعة مكملة للفطرة، ومفصلة للأحكام التي لا تستقل الفطرة بإثباتها، فمثل الفطرة مع الشريعة، كمثل العين مع النور، فإن العين إذا غاب النور عنها لم تبصر شيئاً، وكذلك الفطرة إذا غابت عنها الشريعة المنزلة!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فالفطرة مُكَمَّلَةٌ بالشريعة المنزلة، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملاً، والشريعة تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به) . [مجموع الفتاوى (٤/٤٥) ] . انتهى
ويقول أيضاً:(فإن الله فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها) . [مجموع الفتاوى (٥/٢٦٠) ] . ووجود الله تعالى ثابت ومستقر بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، ودلالة العقل، والفطرة، والحس.
فإذا تقرر لك هذا جلياً، أَنتقِلُ إلى الجانب الآخر من السؤال، فأقول:
اعلم -رعاك الله- أنه ليس هناك مرحلة معرفة دون عمل، ثم مرحلة عمل، فمن معرفة الله وقدره حق قدره أن تعبده، وأن تجتهد لما خُلقت له "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات: ٥٦] .
أما القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهتم بالعبادة في أول الإسلام، فهذا غير صحيح، فشريعة الله عز وجل كانت تتنزل شيئا فشيئا، ففرضت الصلاة، ثم الصيام، والزكاة، والحج، والحدود. قال تعالى:"وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً"[الإسراء: ١٠٦] ، حتى اكتملت الشريعة، فأنزل الله عز وجل:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً"[المائدة:٣] . فالشريعة كملت، والمسلم مأمور بها كلها بعد ذلك.