[اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم واختلافهم]
المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه /الاجتهاد والتقليد
التاريخ ٠٩/٠٥/١٤٢٥هـ
السؤال
كيف نوفِّق بين وجوب اتباع آراء السلف من الصحابة - رضي الله عنهم- واختلافهم في اجتهاداتهم في بعض الأحيان؛ وهل اختلف الصحابة - رضي الله عنهم- في تأويل النصوص من الكتاب والسنة؟.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المقرر عند أهل العلم أن أفضل هذه الأمة -بعد النبي صلى الله عليه وسلم- هم صحابته رضي الله عنهم، كيف لا وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه قد رضي عنهم وأرضاهم، وانطلاقاً من فضلهم وعدالتهم ومصاحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فإن لأقوالهم من المنزلة والفضل ما ليس لغيرهم من العلماء على مر العصور، وهذا الأمر هو الذي جعل كثيراً من أهل العلم يعدون قول الصحابي من الأدلة التي يحتج بها على الأحكام؛ لأنهم عاصروا تنزل الوحي، وشاهدوا الوقائع مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الباب ما ذكره الإمام الشاطبي، حيث قرر أن الواجب على الناس عموماً أن يفهموا نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة مثل ما فهمها الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم هم الذين خوطبوا بهذه الأدلة أولاً، فلا بد أن نفهمها كما فهموها؛ لنعمل بها كما عملوا هم بها.
وإذا نظرنا إلى واقع الصحابة -رضي الله عنهم- نجد أنه قد صدر منهم عدد كبير من الأقوال والأحكام والفتاوى والاجتهادات، والمسلم عموماً مأمور باتباع الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأحوال المصاحبة لتلك الأقوال، ويمكن تقسيم المسألة إلى الأقسام التالية:
١- إن كان الصحابة متفقين على حكم معين في مسألة من المسائل، فهذا يعد إجماعاً منهم، والواجب على كل من جاء بعدهم أن يصير إلى قولهم ولا يجوز له مخالفتهم؛ لأنهم مجمعون على هذا القول، ومن خالفهم والحالة هذه فإنه يكون متبعاً غيرَ سبيل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يقول:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ".
٢- إن صدر من أحد الصحابة قولٌ وانتشر بين الصحابة-رضي الله عنهم-، ولم يخطِّىء أحد من الصحابة-رضي الله عنهم- هذا القول، ولم يصدر من أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- إنكار على صاحب هذا القول، فإن الواجب علينا اتباع هذا القول؛ لأن القول المنتشر الذي لم يخالفه أحد يعد نوعاً من أنواع الإجماع، وهو الإجماع السكوتي، وأكثر أهل العلم على أن الإجماع السكوتي يجب اتباعه ولا تجوز مخالفته.
٣- إن صدر قول من أحد الصحابة، ولم ينتشر هذا القول، ولم يُنقل إلينا أن غيره من الصحابة قد خالفه، وهذا القسم حصل فيه خلاف بين أهل العلم، والذي عليه كثيرٌ من أهل العلم أن قول الصحابي بهذه الحالة يجب اتباعه، وذكروا عدداً من الأدلة الدالة على وجوب الأخذ بقول الصحابي بهذه الحالة، والمقام لا يتسع لذكرها.
٤- إن صدر من أحد الصحابة قول معين في أي مسألة من المسائل، وخالفه غيره من الصحابة، فإنه ليس قول بعضهم حجة على بعض، ولذلك فإنه لا حرج على من اتبع أيّاً من القولين.
والخلاصة: أن اتباع الصحابة رضي الله عنهم واجب فيما اتفقوا عليه قولاً أو سكوتاً، أما ما اختلفوا فيه فإنه لا يجب اتباع قول معين منه، وإنما الواجب علينا ألاَّ نخرج عن مجموع أقوالهم، ولذلك فإنه لا يجوز لنا إحداث قول لم يقل به أحد منهم، مثلاً: إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة من المسائل على قولين: الأول: الجواز، والثاني: الكراهة، فيجب علينا اتباعهم في أحد هذين القولين، ولا يجوز لنا أن نحدث قولاً جديداً لم يقل به أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- كأن نقول بالتحريم مثلاً؛ لأن اختلافهم على هذين القولين فقط هو بمثابة الإجماع منهم بعدم جواز قول ثالث.
وهذا الكلام عام في كل ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن ذلك ما يتعَّلق بتأويل النصوص من الكتاب والسنة، فقد حملت لنا كتب التفاسير والسنن والمصنفات والآثار عدداً كبيراً من الأقوال الصادرة عن الصحابة -رضي الله عنهم- فيما يتعلق بتأويل النصوص من الكتاب والسنة وتفسيرها، بل إن كثيراً من كتب التفسير اهتمت بأقوال الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث إنهم يفسرون القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
والأقوال المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم فيما يتعلق بتأويل النصوص منها ما هو متفق عليه بين الصحابة-رضي الله عنهم-، ومنها ما وقع فيه خلاف بينهم، وموقفنا من هذه الأقوال يكون على وفق التقسيم السابق ذكره.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.