[حجية القياس]
المجيب وليد بن إبراهيم العجاجي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام
التاريخ ١٢/٠٨/١٤٢٥هـ
السؤال
هناك بعض طلبة العلم ينكرون القياس ويدعون اتباع السلف. هل أنكر السلف القياس؟ وما حكم منكري القياس؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"، وبعد:
فإن القياس هو: مساواة فرع لأصل في علة حكمه، ويقسِّم أهل العلم القياس باعتبار قوته وضعفه إلى قسمين رئيسين، هما:
القسم الأول: القياس الجلي، وهو ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثِّر بين الأصل والفرع، أو كانت العلة فيه منصوصاً عليها، أو مجمعاً عليها، فهذا النوع لا يحتاج فيه إلى التعرض لبيان العلة الجامعة؛ لذلك سمي بالجلي، ومن أمثلته:
(١) قياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحريم بجامع الإتلاف فيهما، وهنا الأصل هو أكل مال اليتيم الذي جاء النص بتحريمه في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً" [النساء:١٠] ، والفرع هو إحراقه، والعلة هي الإتلاف، والحكم هو التحريم، ولا فرق بين الأصل والفرع هنا فهما متساويان في الضرر بمال اليتيم.
(٢) قياس ضرب الوالدين على قول: "أُفٍّ" لهما، في التحريم، بجامع الإيذاء، ولا شك أن ضرر الوالدين بالضرب أشد من ضررهما بالكلام، فيكون أشد وأعظم في كونه محرماً. وهذا النوع من القياس ينبغي ألا يخالف فيه أهل العلم أحد من أهل العلم، وإن لم يسمه قياساً.
القسم الثاني: القياس الخفي: وهو بخلاف ما سبق في القياس الجلي، ويمثلون له: بقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص بجامع كونه قتلاً عمداً عدواناً. وهذا النوع لا بد فيه من التعرض لبيان العلة، وبيان وجودها في الفرع. وهذا متفق على تسميته قياساً، وهو حجة في الأمور بالاتفاق فيما يلي:
(١) الأمور الدنيوية: كقياس دواء على دواء وسعر بضاعة على سعر بضاعة أخرى، ونحوه.
(٢) القياس الصادر منه صلى الله عليه وسلم بالاتفاق؛ لأن مقدماته قطعية، لوجوب علم وقوعه. كما اتفق أهل السنة على عدم إجراء القياس في التوحيد والعقائد إن أدّى ذلك إلى تشبيه الخلاق بالمخلوق، وإنما يصح إذا استدل به على معرفة الصانع وتوحيده، ويستخدم في ذلك قياس الأولى؛ لئلا يدخل الخالق والمخلوق تحت قضية كلية تستوي أفرادها، ولئلا يتماثلان في شيء من الأشياء، فـ "لله المثل الأعلى"، و "ليس كمثله شيء". بل الواجب أن يعلم أن كل نقص ثبت للمخلوق فالخالق أولى بنفيه عنه، وكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به. وقد وقع النزاع في إجراء القياس في الأحكام الشرعية: فذهب كافة الأئمة من الصحابة - رضي الله عنهم- والتابعين، وجمهور الفقهاء، والمتكلمين إلى أن القياس الشرعي أصل من أصول الشرع، يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع، حتى قال الإمام أحمد: (لا يستغني أحد عن القياس) .
وأنكره النظام المعتزلي، وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، وتابعهم من أهل السنة على نفيه في الأحكام داود الظاهري. ثم المنكرون اختلفوا في طريق نفيه، فمنهم من نفاه عقلاً، فقالوا: الخوض فيه قبيح لعينه، أو أن الأحكام الشرعية طريقها المصالح، ولا يعرف المصالح إلا صاحب الشرع، فلا يجوز إثباتها إلا من جهة التوقيف، إلى غير ذلك مما عللوا به رأيهم، ومنهم من قال: الشرع يمنع من إجراء القياس، وإن أجازه العقل، وهم فرقتان:
(١) فرقة قالت: نصوص الكتاب والسنة قد وفت وأثبتت فلا حاجة إلى القياس، وهو رأي ابن حزم.
(٢) وفرقة قالت: بل حرم القول بالقياس.
قال الدبوسي: (نفاة القياس أربعة: منهم من لا يرى دليل العقل حجة والقياس منه، ومنهم من لا يراه حجة إلا في موجبات العقول، والقياس ليس منها، ومنهم من لا يراه حجة لأحكام الشرع، ومنهم من لا يراه حجة فيها إلا عند الضرورة، ولا ضرورة، لأنا نحكم فيما لا نص فيه باستصحاب البراءة الأصلية) . والصحيح الاحتجاج به، وما وقع من خلاف فهو خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثبات القياس من الصحابة - رضي الله عنهم- والتابعين قولاً وعملاً. ولكن للعمل بالقياس ضوابط أسوقها لك مختصراً:
- ألا يخالف نصاً أو قاعدة شرعية؛ إذ القياس عند عدم النص.
- أن يصدر من عالم مؤهل قد استجمع شروط الاجتهاد.
- أن يكون القياس في نفسه صحيحاً قد استجمع شروط الصحة التي يذكرها الأصوليون في بحثهم لهذا الدليل.
فإذا خلا من هذه الضوابط فهو القياس الباطل الذي ذمه سلف الأمة. وأما حكم من أنكر القياس الصحيح، فقد قال فيه الغزالي: (ومن ذهب إلى رد القياس فهو مقطوع بخطئه من جهة النظر، محكوم بكونه مأثوماً) .
وقال ابن المنير: (ذكر القاضي بكر بن العلاء من أصحابنا أن القاضي إسماعيل أمر بداود - منكر القياس- فصفع في مجلسه بالنعال، وحمله إلى الموفق بالبصرة؛ ليضرب عنقه؛ لأنه رأى أنه جحد أمراً ضرورياً من الشريعة في رعاية مصالح الخلق والجلاد في هؤلاء أنفع من الجدال) . والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.