[البلوغ والتكاليف الشرعية]
المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/الأحكام التكليفية
التاريخ ٣٠/١/١٤٢٥هـ
السؤال
لا شك أن من المقرر شرعًا وعقلاً أنه لا تكليف إلا بعد البلوغ، ومن ميز من الغلمان فإنه يحط عنه التكليف تخفيفًا، كما قرر ذلك أهل الأصول، إلا أنه أشكلت علي قصة حصلت في عهد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في قصة الغلام اليهودي الذي يحتضر، وعنده النبي-صلى الله عليه وسلم- فدعاه إلى الإسلام فنظر الغلام إلى وجه أبيه، فقال أبوه أطع أبا القاسم فاستجاب فأسلم، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار".
ووجه الإشكال - مشايخنا الكرام: كيف يكون هذا الغلام قد أنقذه الله بنبيه من النار مع أنه غلام، والتكليف عنه مرفوع؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن المقرر عند أهل الأصول أن البلوغ شرط من شروط التكليف، والبلوغ هو: انتهاء حد الصغر، ويتحقق البلوغ بإحدى علامات ثلاث عند الذكور، وهي: بلوغ خمس عشرة سنة، أو الاحتلام، أو إنبات شعر خشن في القبل. أما بالنسبة للإناث، فإن بلوغهن يتحقق بأحد الأمور الثلاثة السابقة، وبأمرين آخرين، وهما: الحيض، والحمل. ولأجل هذا الشرط فإن الصبي غير مكلف؛ لفقده شرط البلوغ، ولضعفه عن احتمال الأوامر والنواهي، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "رفع القلم عن ثلاثة: ...وعن الصبي "حتى يكبر" وفي رواية "حتى يحتلم"، وفي رواية "حتى يبلغ" رواه أحمد (٩٤٣) وأبو داود (٤٤٠٢) والترمذي (١٤٢٣) من حديث علي - رضي الله عنه -، وقال السيوطي: حديث صحيح. والأحاديث الصحيحة توافق هذا الأمر ولا تخالفه، ومن ذلك حديث اليهودي - محل السؤال والاستشكال - ونصه كما رواه البخاري (١٣٥٦) وغيره عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- فمرض، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم- فأسلم، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار".
فهذا الحديث لا يدل على أن غير البالغ مكلف بالأحكام الشرعية حتى يكون هذا الحديث مشكلاً، ويحكم بتعارضه مع حديث رفع القلم المذكور قريباً، وعلى فرض أن هذا الحديث مشكل؛ فإن العلماء قد تكلموا عنه وبينوا المخرج من هذا الإشكال، ومن ذلك:
(١) أن الصبي إذا كان يعقل ويفهم فهماً مستقيماً فإنه يكون مكلفاً، قال ابن حجر وفي قوله "أنقذه من النار" دلالة على أنه صح إسلامه، وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب (فتح الباري ٣/٢٨٤) . وهذا التوجيه موافق لمن قال: إن الصبي المميز يكون مكلفاً ولو لم يبلغ؛ لأنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، وهذا القول هو أحد الأقوال في مسألة تكليف الصبي المميز، وهي من المسائل الخلافية المشهورة في الأصول.
(٢) أن أولاد المشركين يتبعون آباءهم في الآخرة فيكونون من أهل النار، وبناءً على هذا القول فإن هذا الغلام لو لم يسلم لكان من أهل النار، لا لأنه مكلف؛ بل لأنه يهودي تبعاً لأبيه اليهودي، ومن مات وهو يهودي بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو من أهل النار، ومسألة مصير أولاد المشركين من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم على أقوال عديدة ذكرها ابن حجر في فتح الباري (٣/٣١٤-٣١٦) .
(٣) أن الغلام المذكور في الحديث قد بلغ فيكون مكلفاً؛ لأنه ليس في الحديث ما يدل على عدم بلوغه، قال شيخنا عبد العزيز بن باز تعقيباً على ما ذهب إليه ابن حجر في توجيه حديث الغلام المذكور قريباً ما نصه: في هذه الفائدة نظر؛ لأنه ليس في الحديث المذكور دلالة صريحة على أن الغلام المذكور لم يبلغ، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة... وذكر منهم: الصغير حتى يبلغ" (سبق تخريجه) والله أعلم. وهذا التوجيه للحديث هو الأقرب لموافقته الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على أن الصغير الذي لم يبلغ غير مكلف، وليس في حديث الغلام ما يخالف ذلك؛ لأن لفظ الغلام ليس محصوراً في الدلالة على الصغير الذي لم يبلغ، بل له معانٍ متعددة، ومنها: الخادم، فإن الغلام يطلق على الخادم، والغلام المذكور في الحديث كان يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في رواية البخاري المتقدمة، وكما في رواية أحمد (١٢٣٨١) لهذا الحديث، ومحل الشاهد منها قوله: "كان غلام يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، يضع له وضوءه، ويناوله نعليه"، وبناءً على هذا يكون معنى الغلام في الحديث: الخادم وبهذا يزول الإشكال، والحمد لله رب العالمين.
والله الموفق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.