فيعتبر الاستصلاح -أو المصلحة المرسلة- من أهم أدلة الشرع، وأوسعها استعمالاً خاصة عند فقد الدليل من النص أو الإجماع أو القياس الصحيح، كما أن المصلحة المرسلة متى ما توفرت شروط العمل بها، فإنها غالباً ما تحقق مقصد الشارع من التكليف، وتحقق كذلك مقاصد المكلفين، ولذلك فإنها وسيلة لتحقيق مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين؛ ولذلك فإنه قد جرى العمل بها في جميع المذاهب الفقهية، وما ذكر من خلاف في ذلك فغالبه يرجع إما إلى خلاف في اللفظ، وإما إلى التوسع في اشتراط شروط للعمل بالمصلحة وعدم اشتراط ذلك.
وأول من عمل بالمصلحة واستند إليها في الفتيا والقضاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك مثل قتالهم للمرتدين مانعي الزكاة، وجمعهم للقرآن في مصحف واحد، ومنع الناس من دخول بلد حل فيها الطاعون، وكذلك خروجهم منها، وفرض العطاء لكل مولود ولقيط، ومنع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من اختلاط النساء بالرجال في الطواف، وتحديد عمر رضي الله عنه مدة غياب الجند عن نسائهم في ميادين الجهاد بأربعة أشهر وقيل: ستة، ومنع عمر -رضي الله عنه- من تزوج الكتابيات، وحبسه الأراضي الزراعية المفتوحة عنوة في العراق والشام على المصالح العامة، وعدم توزيعها على الجند، وتدوين الدواوين، وبناء المؤسسات، وإرسال المفتشين إلى العمال والولاة للتحقق من شكايات الناس وسماع مظالمهم، وتضمين الإمام مالك -رحمه الله- للصناع، وحبس المتهم وضربه، والقول بالتسعير، وتلقي الركبان، وقبول شهادة الصبيان في الجراح إذا شهدوا قبل أن يتفرقوا أو يعلَّموا، وقتل الجماعة بالواحد، وتغريم السارق، وأمثال ذلك كثير. والله أعلم.