بفتوى مَن نأخذ؟
المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
أصول الفقه /الفتوى والإفتاء
التاريخ ١٩/١٠/١٤٢٤هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
موضوع سؤالي هو: مسألة الأخذ بالفتوى عندما تختلف من عالم إلى عالم في نفس الإشكالية، وسؤالي تحديداً عن شراء المسكن بالفائدة البنكية؛ فقد وجدت عدة آراء في هذه المسألة بين من حرمها قطعاً، ومن أجازها للضرورة حتى داخل الدول الإسلامية،
فهناك من العلماء من لهم وزنهم على الساحة العالمية، ويجيزون شراء البيت بالقروض البنكية بدعوى أن البيت من الضرورات التي تبيح المحظورات، وهناك من يرى من العلماء الكبار أيضا أن الضرورات لا حد لها وتقدر حسب الأشخاص، وبالتالي فإن فتح هذا الباب سيجعل من الاقتراض الربوي حالة شائعة وعامة، بالإضافة إلى أدلة أخرى تجعل هذا الفريق الثاني يحرم الاقتراض الربوي بشكل عام، أمام هذا الوضع أتساءل -جزاكم الله خيراً- عن حكم من أخذ بفتوى الفريق الأول من العلماء الذين يجيزون الاقتراض الربوي لشراء مسكن، وهو غير مقتنع برأيهم ولكنه يحملهم وزر فتواهم، فهل يعتبر آثما؟ أم لا؟. وجزاكم الله خير الجزاء.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى تعبد الخلق باتباع شرعه وتطبيق أحكامه، ونصب على ذلك الأدلة البينة والبراهين الواضحة، وطلب من الناس النظر فيها واستنباط أحكامها وآدابها وأسرارها، ولما كان العامي من الناس لا يستطيع النظر في الأدلة واستخراج ما اشتملت عليه من أحكام وشرائع، فإن عليه أن يقلّد أحد الأئمة المجتهدين المشهود لهم بالعلم والصلاح، ويتبعه في كل ما لم يعلم بطلانه، أما إذا علم بطلان قوله في أي مسألة من المسائل بأن تبين له فيها دليل يخالف قول إمامه، فإن الواجب عليه العمل بما دل عليه الدليل، ولا يجوز له حينئذٍ الاستمرار على ما ذهب إليه إمامه؛ لأن التقليد إنما جاز لهذا العامي؛ لأنه جاهل بالدليل، أما إذا عرفه أو أٌخبر به وجب عليه ترك التقليد والعمل بالدليل، وإذا تعدد العلماء والمجتهدون فعلى العامي أن يقلد الأعلم والأفضل؛ لأن قول الأعلم والأفضل أرجح وأقرب إلى الصواب من قول غيره، ولا يجوز للعامي أن يختار من الأقوال أسهلها أو أحبها إلى نفسه، أو أقربها إلى تحقيق مآربه؛ لأن في ذلك تتبعاً للرخص، وهو يؤدي إلى الانحلال من التكليف، ولو فعل ذلك مع اقتناعه بعدم صحة القول الذي أخذ به فإنه مخطئ وآثم، وليس على من أفتى بهذا القول شيء؛ لأنه مجتهد، والمجتهد مأجور على كل حال، إلا إن كان الذي أفتى بهذا القول غير عالم، فإن أفتى وهو جاهل فهو آثم على كل حال ولا يجوز تقليده أبداً.
أما مسألة شراء البيت بالفائدة الربوية، فهي من التعامل الصريح بالربا، وهذه المسألة ليست من المسائل التي يُضطر إليها الناس حتى يُقال بإباحتها، ومن قال بجواز التعامل بالربا في شراء البيوت نظراً لاضطرار الناس فقوله باطل وليس له مستند من الأدلة الشرعية، ولو أخذنا بهذا القول لأجزنا كثيراً من الأمور المحرمة؛ لأن كل إنسان يزعم أنه مضطر إلى ذلك الأمر المحرم.
وإذا نظرنا إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نرى شدته في التحذير من الربا والنهي عنه بكافة صوره وأشكاله، بل إنه ردّ كثيراً من المعاملات الربوية التي حصلت من بعض الناس في ذلك العصر مع جهلهم بتحريمها، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم حاجة الناس في ذلك العصر سبباً لجواز التعامل بالربا، مع أن أكثر الناس في ذلك العصر كانوا من الفقراء، بل إن بعضهم أو كثيراً منهم لا يجد ما يسد رمقه من الجوع.
ولذلك فإنه لا يجوز شراء البيوت ولا غيرها عن طريق البنوك الربوية، ومن فعل ذلك فقد اقترف كبيرة من كبائر الذنوب، وعرّض نفسه لغضب الله وسخطه، وأذكرك بأن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ملعونون كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر مسلم (١٥٩٧) ، وهل يرضى أحد من المسلمين أن تحل عليه لعنة الله؟.
ثم إن الله سبحانه وتعالى لم يحرم علينا شيئاً إلا أباح لنا غيره مما يحقق المقصود نفسه، وإن كان الله حرم علينا الربا فقد أباح لنا كثيراً من المعاملات والعقود التي تساعد الإنسان على تحقيق ما يصبو إليه، ومن هذه المعاملات: البيع بالأجل وبيع التقسيط، والتورق، والاستصناع، والسلم، ونحو ذلك من المعاملات الجائزة التي يعتاض بها الإنسان عن المعاملات المحرمة، وختاماً أقول: من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.