للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدلالة العلمية: لم يكن أحد زمن نزول القرآن يدرك أسرار المخلوقات على النحو الذي كشفته اليوم - بعد جهود مضنية في المجالات العلمية المتنوعة - الثورة المحمومة لكشف المجهول، والتي بدأت بعد نزول القرآن بأكثر من عشرة قرون, وقد جاءت الكشوف العلمية مؤيدة لعناية القرآن بالبعوضة لأهميتها في حياة البشر رغم ضآلتها في عالم الأحياء, وهذا مثل صارخ لتسامي القرآن الكريم عن النظرة النسبية في الحكم على الأشياء وتنزهه عن التصورات المحصورة بزمن، فلا تخرج في تعريفها للأشياء عما هو سائد فيه, وفي بيئة التنزيل لم يعرف عن البعوضة سوى أنها غير ذات شأن؛ من جملة ما يستحيى من ذكره في المسائل العظام, ولا يجب أن تلقى أي عناية أو اهتمام, وبلغت اعتبارها المثل في الضآلة والاستحقار, لأن في منظورهم: (ليس شيء.. أصغر من البعوضة) , وأنها: (نهاية في القلة والضعف) , فماذا قرر القرآن الكريم؟: دفع الاستحقار بالبعوضة في منظور الحقيقة؛ فكشف العلم بأنها ذات خطورة على المخاطبين وإن لم يدركوها، وأنها ليست نهاية في الضآلة كما يتصورون, بل هناك ما هو "فَوْقَهَا" في الضآلة ويفوقها في الخطورة, وذلك قبل أن تكتشف الأمراض الخطيرة التي تسببها البعوضة وعوالم الكائنات الحية الأدق وغير المرئية, ولم يكتشف المجهر ويستخدم لمعاينة الكائنات الدقيقة إلا في القرن السابع عشر الميلادي, وهكذا تجاوز القرآن الأفق الأعلى لمعارف المخاطبين لعدة قرون، ورفع أستار المجهول جملة واحدة. وفي نفي الاستحياء بالبعوضة دفع للاستهانة وبيان للأهمية والخطورة والتمكين بقدرات تتحدى المخاطبين, و (الفوقية) في اللغة العلو والزيادة في صفة يبينها السياق سيقت من أجلها المقارنة, قال الفخر الرازي: (أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها، والمحققون مالوا إلى هذا القول؛ لأن: الغرض هاهنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون

<<  <  ج: ص:  >  >>