بعد هذا نقول: إنه قد صح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التشهّد، كفّي بين كفّيه، كما يعلمني السورة من القرآن، قال:(التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) . وهو بين ظهرانينا، فلما قبض قلنا: السلام على النبي.
أخرجه الإمام أحمد -واللفظ له- رقم:(٣٩٣٥) ، والبخاري رقم:(٦٢٦٥) ، ومسلم -مختصراً- (١/٣٠٢ رقم ٤٠٢) ، وغيرهم.
وظاهر هذا اللفظ أن الصحابة كانوا يذكرون التشهد في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ:(السلام عليك أيها النبي) ، على هيئة الخطاب. وأنهم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- تركوا ذلك إلى أسلوب الغيبة:(السلام على النبي) ولا يمكن أن يكون هذا التفريق منهم إلا بتوقيف من النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم به، خاصة من مثل ابن مسعود -رضي الله عنه- في علمه، وفي تشدده في أمر التشهد (كما سبق عنه) .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٢/٣٦٦) : (قال السبكي في شرح المنهاج بعد أن ذكر هذه الرواية عند أبي عوانة وحده: إن صح هذا عن الصحابة دل على أن الخطاب في السلام بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- غير واجب، فيقال: السلام على النبي قلت: قد صح بلا ريب، وقد وجدت له متابعاً قوياً، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عطاء: أن الصحابة كانوا يقولون والنبي -صلى الله عليه وسلم- حيّ: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي. وهذا إسناد صحيح) .
فظاهر هذين الخبرين أن ترك أسلوب الخطاب بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي كان عليه عمل الصحابة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولولا ما يأتي مما يدل على استمرار بعضهم على أسلوب الخطاب، بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لكان هذا إجماعاً أو كالإجماع على ترك أسلوب الخطاب.