فهذه الآية الكريمة التي ذكرها السائل الكريم تضمنت خبراً عما جرى بين الجن الذين استمعوا لآيات من القرآن الكريم، فذكروا وصفين للقرآن، أحدهما: أنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والثاني: أنه أنزل من بعد موسى - عليه السلام -، وسبب قولهم:"من بعد موسى" مع أن عيسى - عليه السلام - كان أقرب لمبعث محمد عليهم -الصلاة والسلام-، قد حاول أهل العلم من المفسرين توجيهه، فأشار كثير منهم ـ كالبغوي، والرازي، وأبي السعود، وغيرهم ـ إلى أن ذلك النفر من الجن كان على دين موسى -عليه السلام-، واعتمدوا في ذلك على أثر يذكر عن قتادة -رحمه الله-، وقد بحثت عنه مسندا في مظانه فلم أجده فلا أستطيع الجزم بصحة نسبته إليه، على أنه إن صحت نسبته إليه فتوجيه الآية اعتمادا عليه محل نظر؛ لاحتمال أن يكون قاله باجتهاده معتمدا في ذلك على مصادر ليست معصومة كروايات أهل الكتاب مثلا، ذلك أن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة تقوي القول بضعف هذا التوجيه لما قد تقرر عند أهل العلم؛ أن من خصائص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- أنه بعث للثقلين الإنس والجن، وأن من كان قبله من الأنبياء كان يبعث إلى قومه خاصة، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري (٣٣٥) ومسلم (٥٢١) وغيره عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"، وفي لفظ عند البزار:"وبعثت إلى الإنس والجن" قال ابن عبد البر -رحمه الله-: لا يختلفون ـ أي أهل العلم ـ أنه - صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الإنس والجن، وهذا مما فضل به على الأنبياء" أ. هـ وحكى الإجماع أيضا ابن قتيبة في تأويل مشكل الحديث في سياق رده على النظام المعتزلي.