على أن تشريع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ليس مقتضاه أن يُسلم كلُّ من دعي إليه، بل مقتضاه أن يكون نظامُ الإسلام هو المهيمنَ والحاكمَ على حياة الناس، أما هم فيما يعتقدون فلهم الحرية المطلقة أن يعتقدوا ما شاءوا، ودولة الإسلام تحميهم مما تحمي منه أبناءها مقابل دفع الجزية.
وبعد تقرير أن "لا إكراه في الدين"[البقرة:٢٥٦] ، وبيان بواعث الجهاد في سبيل الله وغاياته، لا بد من الإجابة عما يُظَنّ أنه معارض لهذه الحقيقة أو ناسخٌ لها من الأدلة الشرعية.
يذكرون من ذلك قوله تعالى:"فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد.."الآية سورة [التوبة:٥] .
فقد ظن بعضهم أنها ناسخةٌ لآية "لا إكراه في الدين"، إذ مقتضى عمومها أن كل من بلغته الدعوة من الكفار فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام، وإلا مضى فيه السيف.
والجواب: أن هذه الآية وإن كانت من آخر ما نزل ـ حيث نزلت في السنة التاسعة من الهجرة ـ لكن تأخر نزولها لا يقضي بنسخ ما تقدمها من الآيات، ومنها قوله تعالى:"لا إكراه في الدين".
والآية وإن وردت بلفظ العموم؛ لكنها من العام المخصوص، إذ خصّصت عمومها آياتٌ وأحاديث أخرى ـ سيأتي ذكرها ـ، فبقي عمومها مخصوصاً بمشركي العرب الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم ونكثوا أيمانهم. وخرج من هذا العموم مَن عداهم ممن لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا على المسلمين أحداً، وكذلك أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من غير العرب.