ثانياً: كما يدل على أن علة إيجاب الحجاب هو هذا أمرُه -سبحانه- للمؤمنين أن "يغضوا من أبصارهم"[النور: ٣٠] وأمرُه للنساء بقوله:"وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... "[النور: ٣١] ثم قال:"ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن"[النور: ٣١] ، فإذا نُهيت المرأة عن ضرب رجلها لئلا يُعلم ما تخفي من زينتها، فكيف يسوغ لها أن تبدي مفاتنها مما أمر بستره عن الرجال؟
ثالثاً: ترخيصه عز وجل للقواعد من النساء أن يضعن ثيابهن، كما في قوله -تعالى-:"والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة"[النور: ٦٠] .
والمقصود بالثياب التي رخص الله لهن أن يضعنها الجلباب والرداء، كما فسّر ذلك ابن عباس وابن عمر ومجاهد وابن جبير والنخعي والحسن البصري وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم، فدل على أن غير العجائز مأمورات بالحجاب؛ لتحقق الفتنة بهن.
ثم لو كان الحجاب لأجل التمييز بين الحرة والأمة فحسب، فما معنى أن يُرخَّص للعجائز أن يضعن ثيابهن؟
رابعاً: إجماع الأمة من لدن عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا على أن الحجاب واجب على كل بالغة من النساء الحرائر، ولم ينقل عن أحدٍ القول بأن العلة هي تمييز الحرة من الأمة.
خامساً: أن الأَمَةَ إذا خيفت الفتنة بها كان عليها أن تحتجب كالحرة، لأنه تتحقق من عدم احتجابها المفسدة ذاتها التي خافها الشرع من تكشّف الحرائر؛ فإذا استُثنيت القواعد من النساء من وجوب الحجاب لزوال المفسدة الموجودة في غيرهن، فمن باب أولى أن تستثنى بعض الإماء من الترخيص بإباحة كشف الرأس والوجه واليدين إلى إيجاب الحجاب عليها درءاً للفتنة بذلك.
سادساً: الذي يظهر أن المقصود بقوله -تعالى-:"ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين"[الأحزاب: ٥٩] أي يُعرفن بالعفة والحياء والحشمة والستر؛ فلا يطمع فيهن من في قلبه مرض، بخلاف السافرات المتبرجات المتبذِّلات، وهذا ما يشهد له الواقع، فإن المرأة إذا خرجت متسترة متحجبة الحجاب الشرعي الكامل ولم تصدر منها حركة ريبة كانت في مأمنٍ -غالباً- من أذية ومضايقة أهل الأهواء والشهوات، إما إذا خرجت متبرجة متزينة -ولو لم تقصد بذلك الفاحشة أو إغواء الرجال- فإنها تكون عُرضةً لأذية ومضايقة أصحاب القلوب المريضة، ويكون طمعهم فيها أشد، ورجاؤهم في استجابتها لهم أقوى وأقرب، والله المستعان.