ثالثاً: إذا تقرر أن أهل العلم هم الذين يبينون المراد بالأدلة الشرعية التي تحتاج إلى تفسير وإيضاح وبيان، فيجب على الناس قبول قولهم، ولا يجوز لهم العدول عنه إلا إذا كان الإنسان أهلاً للاجتهاد، فيأخذ بالقول الذي أداه إليه اجتهاده، أما من لم يكن من أهل الاجتهاد والنظر فإنه يحرم عليه الانفراد برأيه، ويجب عليه سؤال أهل العلم، استجابةً لقوله تعالى:"فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"[النحل: ٤٣] . ولذلك فإن الواجب علينا أن نفهم النصوص الشرعية كما فهمها سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - ومن سار على طريقتهم، ومن ذلك تفسير ابن مسعود -رضي الله عنه- لقوله تعالى:"ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله"[لقمان: ٦] حيث قال -رضي الله عنه-: إن لهو الحديث هو الغناء، فتكون هذه الآية دالةً على تحريم الغناء. وليس من الصحيح أن يأتي إنسان ليس من أهل العلم ويقول: لا نأخذ بكلام ابن مسعود - رضي الله عنه- لأن كل الناس يؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن المقرر عند أهل العلم أن لقول الصحابي حظه من الحجية على اختلاف بينهم، لكن قول الصحابي فيما لا مدخل للرأي فيه كتفسير ابن مسعود - رضي الله عنه- للهو الحديث معتبر عند أكثر العلماء؛ لأنهم يعطونه حكم الرفع، فالصحابي لم يتكلم في مسألة لا مدخل للرأي فيها إلا لكونه سمع ما قاله من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; أما الاستدلال بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه أبو داود (٢٦٤٥) والترمذي (١٦٠٤) والنسائي (٤٧٨٠)"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين " على تحريم السفر إلى بلاد الكفر من أجل السياحة فهو استدلالٌ قوي؛ لأن تبرؤ الرسول- صلى الله عليه وسلم - من أي فعل يدل على تحريمه، أما ما تنقله عن صاحبك من قوله:" أكيد أن له مناسبة خاصة ولا أعتقد أن تفسيره يعني تحريم السفر لبلادهم"، فهذا كلام باطلٌ، وهو صادرٌ من إنسان جاهل؛ لأن هذا الكلام خطير قد يؤدي إلى إبطال جميع الأدلة الشرعية بحجة أنه قد يكون المقصود منها خلاف ما هو ظاهر منها، والكلام في الأدلة الشرعية لا يكون مبنياً على الاحتمالات والأوهام - كما هو فعل صاحبك - وإنما يكون مبنياً على العلم المسبق والمعرفة المتيقنة أو المظنونة ظناً غالباً.
رابعاً: المرجع في بيان الأحكام الشرعية هو الأدلة الشرعية المعتبرة من الكتاب والسنة وما يُلحق بذلك كالإجماع والقياس وقول الصحابي ......إلخ، أما كون ذلك الحكم يساير العصر أو يوافق ما عليه حال الناس والمجتمعات فهذا لا أثر له ولا اعتبار له البتة، بل ما دلت عليه الأدلة الشرعية هو المعتبر سواءً وافق العصر وسايره أم خالفه، ولو كان الحاكم في هذا الأمر هو حياة الناس فما وافقها أخذنا به وما خالفها رددناه لما كان هناك تكليفُ ولا ابتلاء ولا امتحان، والله - سبحانه وتعالى- قد كلفنا بهذه الأحكام وابتلانا ليعلم المؤمن المتبع من الكافر المعاند.