إن أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوضحت لنا - بلا أدنى شك - حدود الاستطاعة البشرية في الإنكار ... والعبرة هو حديث مسلم (٤٩) الذي رواه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وفي رواية "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، ويكتمل المعنى في هذا الحديث بحديثين آخرين يوضحان حد القدرة التي يقف عندها كل مسلم في إنكاره ... وأولهما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" البخاري (٧٢٨٨) ومسلم (١٣٣٧) وثانيهما: هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه" قالوا: يا رسول الله وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يقوم به؟ (سبق تخريجه) .
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أ. الإنكار القلبي (المقاومة السلمية) :
قال تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" [هود:١١٣] .
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، ومن خالطهم هلك" (سبق تخريجه) .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة: "أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء"، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: "أمراء يكونون بعدي، لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردوا علي حوضي" أحمد (١٤٤٤١) والترمذي (٦١٤) وإسناده قوي.
ب. الإنكار القولي:
وللإنكار القولي درجات ومراحل منها:
١. التعريف: فقد يقدم المكلف على اقتراف المنكر جهلاً منه بكونه منكراً، حتى إذا وجد من يرده إلى طريق الحق اهتدى، فيلزم التعريف أولاً بأسلوب هادئ رقيق، وينبه الإمام الغزالي إلى آفة خطيرة، وهي أن يدل العالم على مقترف المنكر بعلمه، فيكون هدفه إثبات تفوقه عليه، فإن كان الباعث هذا فهذا منكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه.
٢. النهي بالوعظ، والنصح والتخويف بالله تعالى، ويكون فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً، ويباشر المحتسب النصح في هذا المقام من غير عنف ولا غضب.
٣. السب والتعنيف بالقول الخشن: ويكون ذلك عند العجز عن منعه باللطف، وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح، وليس المقصود بالسب أن يرميه بهجر القول والفاحشة، بل يقتصر على السب الخفيف الذي يصدق على واقع الحال، كأن يقول له: يا من لا يتقي الله، يا فاسق يا جاهل ... إلخ، وهنا ينبغي مراعاة ما يلي:
أ. أن لا يقدم على التعنيف إلا عند الضورة والعجز بالطريقة الأولى.
ب. أن لا ينطق إلا بصدق، ولا يسرف في الكلام، بل يقتصر على قدر الحاجة.
٤. التهديد والتخويف: وشرط ذلك أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله: لأنهبن دارك، أو لأسبين زوجتك، وما يجري مجراه فهذا حرام إن قصد فعله، وكذب إن لم يقصد إليه.
ج. الإنكار الفعلي: وهو نوعان: