وهذا لا ينافي الأمر بالوحدة والاتفاق؛ لأن الخبر بل الأخبار الكثيرة جاءت في الصحيحين وغيرهما بأنه لا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى قيام الساعة.
٣-ليس كل خلاف موجب للفرقة والتنازع، فالاختلاف اليسير فيما يسع فيه الاجتهاد أمر مقبول، بل قد حصل بين السلف شيء يسير من هذا سبق ذكره، وإنما الحذر من الاختلاف في الأصول والكليات (يراجع الاعتصام للشاطبي) .
٤-أن الاختلاف قد يدّعى مع كونه لا حقيقة له بالفعل، وإنما بسبب سوء فهم المسألة من قبل طرفين متنازعين، فيظن أحدهما أن عبارة السلف في تعريف الإيمان مثلاً أنه: قول وعمل، تخالف قول صاحبه أن الإيمان: قول وعمل واتباع للسنة مثلاً، كما نقل عن سهل ابن عبد الله التستري، فيتنازع الاثنان في مسألة لا خلاف فيها أصلاً.
٥-ليس كل من خالف السلف في مسألة أو مسألتين من مسائل العقيدة يخرج بالكلية من زمرة السلف، ويرمى بالبدع، فقد خالف إمام الأئمة ابن خزيمة وأبو ثور وغيرهما في مسألة الصورة، فبُيّن خطؤهما بهدوء بلا قسوة، وبعدل بلا جور، ولم يُخرجا من أهل السنة والجماعة بسبب زلة أو زلتين.
٦-لزوم الحذر من الوقوع في الخلاف بسبب الهوى والجهل والظلم، إذ كثير من الخلافات تنشأ نتيجة هذه الأمور الثلاثة والله المستعان.
ثالثاً: ضوابط في معاملة المخالف:
١-العدل: قال الله: "وإذا قلتم فاعدلوا" [الأنعام:١٥٢] ، وقال: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" [النساء:٥٨] ، فلا نتجاوز الحدود، ونهضم الحقوق، ونلغي الحسنات بسبب خلاف يسير، يمكن تجاوزه بل إصلاحه بشيء من الصبر والحكمة.
٢-المناصحة والرفق: قال -عليه السلام-: "الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم (٥٥) من حديث تميم الداري -رضي الله عنه-) .
فمن وجدناه مخالفاً في مسألة ما وتحققنا مخالفته فيها بذلنا له النصيحة في قالب من الرفق واللين، والرحمة والشفقة، بعيداً عن التشنج والانفعال والغلظة والقسوة.
٣-الدعاء له بإخلاص: قال الله -تعالى-: "اهدنا الصراط المستقيم" [الفاتحة:٦] ، وقال:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" [آل عمران:٨] وهو دعاء بصيغة الجمع في الآيتين، وفيه إشارة إلى مفهوم الجسد الواحد.
فلو أن كل من خالفنا طلبنا من الله له الهداية، وصدقنا في دعائنا له لقلت بواعث الخلاف والفرقة.
٤-البعد عن التبديع والتفسيق: ليس كل خلاف يستدعي وصم صاحبه بأنه مبتدع، ومفارق للجماعة، كما أنه ليس كل من نصر مذهب إحدى الفرق في بعض المسائل يجعل منهم وينسب إليهم، فابن حجر قال بقول الأشاعرة في جملة من الصفات وكذا فعل النووي ومع ذلك لا يعدان أشعريين، وإن زعمه البعض.
٥-يجب التفريق بين المخالف والمتعصب وطالب الحق، فهناك من يخالف حمية وهوى وعصبية، وتقليداً وآخر يخالف اجتهاداً أو غفلة أو سوء فهم أو ملبساً عليه، فالأول يهجر إن غلظت بدعته واستعصت استجابته والآخر يحفظ حقه في الوصل ودوام النصح حتى يراجع الحق.