فلا يجوز أن يصل بك تذوق هذا الفن ومزاولته إلى حد الاستغراق، فلا يبقى من وقتك لعبادة ربك وذكره إلا نزر يسير لا يسع للطمأنينة والتدبر والخشوع، وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد "إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون"[المائدة:٩١] .
كما أن حبك لهذا الفن وتذوقك لجماله وتعبيرك عن أفكارك من خلاله لا يبيح لك- مهما عظم- أن تتقحمي ما حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فَترضِي نفسك وتشبعي رغباتها بما يغضب الله سبحانه.
والآن إليك التفصيل في رسم المخلوقات:
فكل ما ليس فيه روح فيجوز رسمه مطلقاً، كالجبال والشجر والشمس ... إلخ، ويدل لذلك ما أخرجه البخاري (٢٠٧٣) عن سعيد بن أبي الحسن، قال: كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما- إذ أتاه رجل، فقال: يا ابن عباس، إنما معيشتي من صنعة يدي، وأنا أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس- رضي الله عنه- لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول:"من صور صورة، فإن الله معذبه عليها يوم القيامة، حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ أبداً"، قال: فربا الرجل ربوة شديدة- أي ذعر وامتلأ خوفاً-، واصفر وجهه، فقال ابن عباس: ويحك إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بالشجر، وكل شيء ليس فيه روح". كما يدل على ذلك أيضاً حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- وسيأتي قريباً.
وأما ما فيه روح - وهو الإنسان والحيوان- ففيه تفصيل: فرسمه بلا رأس جائز؛ لأنه بدون الرأس لا حياة له، فصير كهيئة ما لا روح فيه، كالشجر وغيره، ويدل لذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخرجه أحمد (٨٠٣٢) ، والترمذي (٢٨٠٦) ، وأبو داود (٤١٥٨) .
والشاهد قوله: "فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة" وهو يدل على أن رسم كل ذي روح بلا رأس جائز؛ لأنه يصير بلا روح، كهيئة الشجر.
وكذلك لو رسم رأس إنسان أو حيوان بلا جسد فلا بأس به على الأظهر؛ لأن الرأس بلا جسد لا روح فيه، فهو كالجسد بلا رأس.
قال ابن قدامة في المغني (١٠/١٩٩) : (وإن قُطع منه ما لا يبقى الحيوان بعد ذهابه؛ كصدره أو بطنه، أو جُعل له رأس منفصل عن بدنه، لم يدخل تحت النهي؛ لأن الصورة لا تبقى بعد ذهابه، فهو كقطع الرأس، وإن كان الذاهب يبقى الحيوان بعده؛ كالعين واليد والرجل، فهو صورة داخلة تحت النهي، وكذلك إذا كان في ابتداء التصوير صورة بدن بلا رأس، أو رأس بلا بدن، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان، لم يدخل في النهي؛ لأن ذلك ليس بصورة حيوان) اهـ.