للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن الكلام الذي تتكلم به وأنت واحد فيفهم من سمعه منك من المعاني غير ما سمعه شخص آخر ممن نقله عنك، وربما تكلم طفلاً بكلام فيضحك، وربما تكلمه بنفس الكلام مرة أخرى فينفر منك أو يبكي، وذلك لما صاحب الكلام من انفعال وحدّة وغضب، ومثل هذا المعنى الذي يوجد في نبرات الصوت وقسمات الوجه لا يدركها إلا من سمع من المتكلم مباشرة، لذا قلنا إن قول الصحابي الذي سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدم على قول غيره لهذه الاعتبارات التي ذكرناها وغيرها، فهل يليق بمسلم يؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يقدم قول غيره في شرع الله مع عدم الدليل؟ وإنما يسوغ ترك قول الصحابي إذا كان مخالفاً للدليل، أما إذا لم يكن هناك دليل فلا وألف لا، كيف نترك قول الصحابة وهم الذين عدلهم الله -تعالى- وزكاهم وجعلهم حملةً لرسالة نبيه ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- بعده إلى من بعدهم؟ فالقدح فيهم قدح في الله -تعالى- وعلمه، ووصف له -سبحانه وتعالى- بالجهل، حيث يختار لصحبة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وحمل رسالته أناساً جهالاً، أو خونة كما يقوله بعض الطوائف المبتدعة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، أرأيتم لو أن ملكاً من ملوك الدنيا أراد أن يختار رجلاً لمنصب ولاية ويحمله مسؤولية كبيرة، وأمانة عظيمة وأراد أن يرسل معه أنصاراً وأعواناً وأصحاباً لمساندته فما ظنكم فيمن يختار له من الأنصار والأصحاب؟ أيختار له جهالاً أو خونة أو منافقين؟ كلا، ولئن حصل اختيار غير مناسب في بعضهم فهذا راجع لقصور علم هذا الملك، ولو علم ذلك منه لما اختاره، هذا مثل يقرب لنا اختيار الله للصحابة -رضوان الله عليهم- ولله المثل الأعلى، فاتهام الصحابة أو القدح فيهم قدح في علم الله وذات الله -تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد أجمع التابعون على اتباع الصحابة فيما ورد عنهم والأخذ بقولهم والفتيا به من غير نكير من أحد منهم وكانوا من أهل الاجتهاد، قال العلائي - في كتابه (الإصابة في أقوال الصحابة صـ٦٧) -:"ومن أمعن النظر في كتب الآثار وجد التابعين لا يختلفون في الرجوع إلى أقوال الصحابة فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع" انتهى كلام العلائي.

وما ذكرته هنا هو مذهب الإمام مالك وأصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد بن حنبل في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة، صرح به محمد بن الحسن وذُكر عن أبي حنيفة نصاً، وهو مذهب جمهور الحنفية، وهو ما نص عليه الشافعي في القديم، وكذلك الجديد، ذكر ذلك الإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله-.

وقد بسطت واستطردت في جواب هذا السؤال لأهميته وشدة الحاجة إلى معرفته؛ لما رأيناه وسمعناه في وسائل الإعلام المرئية والسمعية من قدح في الصحابة - رضوان الله عليهم - وأقوالهم من أصحاب النوايا السيئة، ومن أهل البدع، نسأل الله أن يرد شارد المسلمين ويهدي الضالين إلى الصراط المستقيم، ويجمع كلمة عباده المؤمنين، إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

<<  <  ج: ص:  >  >>