للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن هذا الملحظ تعلم أن تطبيق هذا المنهج المتشدّد على غير السنّة فيه جور على ذلك العلم المنتقد به؛ لأن التثبت من صحة المنقول فيه لا يحتاج إلى كل ذلك التشديد في النقد، ولن نجد من عناية الأمة بمنقول ذلك العلم ما يُكوِّن رصيداً كبيراً صالحاً لذلك التشديد دون أن يؤدّي ذلك إلى تضييع بعض الثابت من ذلك المنقول.

وأقصد من ذلك كله بيان أن التخفف من نقد المنقولات من غير السنة لا يعني أننا سنثبت بذلك غير الثابت، ولكن يعني أنّنا سنضع كل منقول في ميزانه الكافي لتمييز ثابته من غير الثابت منه.

ولكي أنزل من هذا التنظير الجاف، إلى التمثيل الحيّ القريب إلى كلّ ذهن؛ أقول: هب أنك سمعت أحد أجلّه العلماء ممن تعظّمهم النفوس تقوىً وعلماً يحكي لك خبراً عن أحد أشهر شيوخ شيوخه وأعلمهم، يتضمن هذا الخبر أمراً غير مستنكر عن علم ذلك الشيخ، ويقول في ذكره لهذا الخبر: سمعت جماعة من شيوخي يحكونه عن ذلك الشيخ، هل ستشك في صحة هذا الخبر، بحجّة الجهالة بحال شيوخ هذا العالم الذي سمعته؟!

وزيادة في التقريب: لو سمعت الشيخ ابن باز -عليه رحمة الله- يقول: سمعت جماعة من شيوخي يقولون: إن العالم الفلاني كان كذا وكذا، هل سنجد في نفوسنا ريبة من ذلك الخبر؟!

فما بالنا لمّا قال ابن عدي -وهو الإمام الفحل-: "سمعت عدّة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ... " إلى آخر الخبر المشهور، انبرى أحد المعاصرين لنقد هذه القصّة، بحجة الجهالة بحال شيوخ ابن عدي! والحال أن علم البخاري أعظم من هذه القصة، وأن ابن عدي يروي عن جماعة من تلامذة البخاري! ولو أراد ابن عدي -وهو الحافظ المسند- أن يسند هذا الخبر عن بعضهم لفعل، لكنه كان يظن أن مثل هذا السياق: "سمعت عدّة مشايخ يحكون" أقوى ثبوتاً لمثل هذا الخبر من مثل أن يسنده عن واحد أو آحاد منهم؛ لأن منهج نقده غير منهج نقد السنة!

وبعد هذا البيان كلّه، أصل إلى بيان الضابط الذي يمكن من خلاله التشديد في نقد الأخبار والقصص بمنهج المحدثين، أو عدم التشديد والاكتفاء بمناهج نقد أخرى تكفي في مثلها للتوثّق والتحرّي.

فالضابط هو: كل خبر سأبني عليه -مباشرة أو بغير مباشرة- حكماً دينياً، فالأصل فيه أنه لا يقبل إلا بذلك المنهج المتشدّد للمحدثين، الذي ينقدون به السنة ومالا فلا.

وشرح هذا الضابط قد يطول، لكني سأكتفي بأمثلة تبين بعض جوانبه: إذا جئت للسيرة النبوية، أجد أن أخبارها منها ما يمكن أن يستنبط منه حكم شرعي: فهذا من السنة التي تنتقد بذلك المنهج المحتاط لها، ومنها ما لا يستنبط منه حكم شرعي، كتاريخ سريّة من السرايا، وعدد من كان فيها، وتحديد موقعها بدقّة، ونحو ذلك: فهذه لا نطبق عليها منهج المحدثين؛ إلا إن كان بعض ذلك له علاقة غير مباشرة باستنباط حكم، كمعرفة تقدم خبر أو تأخره ليفيدنا ذلك في الناسخ والمنسوخ، أو غير ذلك: فيمكن حينها أن أعود إلى احتياط المحدثين مع السنة في نقدي لهذا الخبر.

وإذا جئت للآثار الموقوفة على الصحابة -رضي الله عنهم-:

<<  <  ج: ص:  >  >>