فهل معنى دخوله أنديتهم وأسواقهم ومجالسهم لإيصال صوت الحق إلى من يرتاد تلك المواضع هو إقرار لكل ما فيها؟!
حاشاه بأبي هو وأمي أن يكون كذلك.
بل كان يدعو إلى الله بما يستطيع ويبين الحق بكل وسيلة، وحين يقف في سوق ذي المجاز أو غيرها ليقول لهم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" كما في مسند أحمد (١٦٠٢٣) .
فهل فهم الناس من ذلك تعارضاً بين دعوته ودخوله هذا السوق؟!
والسوق لا جرم يوجد فيه ربا الجاهلية وغناؤها بل وأوثانها.
وهل اعترض عليه أحد منهم بأنك لو كان ما تدعو إليه حقاً ما دخلت سوقاً أو نادياً أو مجلساً يخالف منهجك؟!
فعلم من هذا أن الخروج في مثل هذه الوسائل لا يلزم منه الإقرار.
وقصة دخول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- السوق أخرجها الإمام أحمد عن رجل من بني مالك –رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى، وما يلتفت إليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. مسند أحمد (١٦٦٠٣) ، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وأخرج الإمام أحمد أيضا عن ربيعة بن عباد وكان جاهليا فأسلم –رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابيء كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب. مسند أحمد (١٦٠٢٢) ، ووثق الهيثمي بعض أسانيد هذا الحديث أيضا.
وفي نص هذا الحديث بروايتيه فائدة أخرى؛ هي عدم اكتراث النبي –صلى الله عليه وسلم- لما يعارض دعوته في هذا السوق ومن يعارضها؛ بل هو ماض يبلغ ما يستطيع تبليغه، وإن جاء بعده أمثال هؤلاء الصادين عن ذكر الله.
٢ – أن هناك فرقاً بين أن يشارك المسلم في عمل يشتمل على المحرم ويكون عضواً فيه فهذا قد يقال فيه: إنه يستلزم الإقرار.
وبين أن يكون مستضافاً في هذا البرنامج أو ذاك بحيث لا يعتبر عضواً في هذا العمل.
فمن حمّل الثاني الإقرار فقد حمله مالا يلزم، يوضحه ما بعده.
٣ – أن المسلم قد يكون موظفاً في عمل، وهو يعتقد أن هذا العمل يشتمل على شئ من المحرمات، ولكنه في عمله لا صلة له بذلك المحرم لكونه في جهة أخرى، كمثل بعض الدوائر التي قد تأخذ ضرائب في جزء من قطاعاتها، أو حتى بعض جهات التعليم التي قد لا تكون موافقةً للشرع في جميع توجهاتها..، ففي جميع تلك الوظائف لا يمكن القول بأن الموظف فيها مقر لكل ما فيها فنحرم عليه العمل فيها مطلقاً.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقبله القرطبي في تفسيره، أن يوسف عليه السلام عمل في حكومة العزيز في مصر خازناً (كمثل وزير المالية في هذا العصر) ، مع أن الحكومة لم تكن على المنهج الحق، وعمل عليه السلام بما يستطيع عمله من الحق.
ومثله عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فمع تمكنه في الخلافة، إلا أنه عمل ما أمكنه من عمل الخير، وإن كان يعلم أن نظام الخلافة العام لا يمكن تعديله بسهولة.