ولهذا فقط اعتبر الإسلام عطاءهما عملاً جليلاً مقدساً استوجبا عليه الشكر وعرفان الجميل، وأوجب لهما حقوقاً على الأبناء لم يوجبها لأحد على أحد إطلاقاً، حتى أن الله تعالى قرن طاعتهما والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده بشكل مباشر، فقال: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً" [النساء:٣٦] .
لأن الفضل على الإنسان بعد الله هو للوالدين، والشكر على الرعاية والعطاء يكون لهما بعد شكر الله وحمده، "ووصينا الإنسان بوالديه ... أن أشكر لي ولوالديك إليَّ المصير" [لقمان:١٤] .
وقد اعتبر القرآن العقوق للوالدين والخروج عن طاعتهما ومرضاتهما معصية وتجبراً، حيث جاء ذكر يحيى بن زكريا بالقول: "وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصيا" [مريم:١٤] .
ولا يقل حق الأب أهمية وجلالاً عن حق الأم، فهو يمثل الأصل والابن هو الفرع، وقد أمضى حياته وشبابه وأفنى عمره بكد واجتهاد للحفاظ على أسرته وتأمين الحياة الهانئة لأولاده، فتعب وخاطر واقتحم المشقات والصعاب في هذا السبيل، وفي ذلك يقول الإمام زين العابدين: "وأمَّا حق أبيك فتعلم أنَّه أصلك وإنَّك فرعه، وإنَّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مِمَّا يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله".
ولذلك حذّر الإسلام من عقوق الوالدين لما له من دلالات ونتائج، وقد حدّد تعالى المستوى الأدنى لعقوق الوالدين في كتابه المجيد، حيث يقول جلّ وعلا: "إمَّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما" [الإسراء:٢٣] .
وعن هذا الحد فقد رُوي: "لو علِمَ الله عز وجل شيئاً من العقوق أدنى من أُفّ لحرمه ". أخرجه الديلمي (٥٠٦٣) .
لكن هل هناك حدود لطاعة الوالدين، نعم ـ يا أخي ـ لقد رسم الله تعالى للإنسان حدود الطاعة لوالديه عندما قرن عبادته وتوحيده وتنزيهه عن الشرك بالإحسان إليهما والطاعة لهما، وقد جعل رضاه من رضاهما، ووصل طاعته بطاعتهما، فقال عزَّ من قائل: "واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة" [الإسراء:٢٤] .
فعندما يصل الأمر إلى معصية الله والشرك به يتوقف الإنسان عند هذا الحد، فلا يطيعهما فيما أمرا لأنَّه بحسب الحديث المعصوم: " لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" أخرجه البخاري (٧٢٥٧) ، ومسلم (١٨٤٠) .
فالواجب على الولد تجاه أبويه أمران: (الأول) الإحسان إليهما، بالإنفاق عليهما إن كانا محتاجين وتأمين حوائجهما المعيشية وتلبية طلباتهما فيما يرجع إلى شؤون حياتهما في حدود المتعارف والمعمول حسبما تقتضيه الفطرة السليمة، ويعدّ تركها تنكراً لجميلهما عليه، وهو أمر يختلف سعة وضيقاً بحسب اختلاف حالهما في القوة والضعف. (الثاني) مصاحبتهما بالمعروف، بعدم الإساءة إليهما قولاً أو فعلاً وإن كانا ظالمين له، فيما يرجع إلى شؤونهما، وأما فيما يرجع إلى شؤون الولد نفسه مما يترتب عليه تأذي أحد أبويه فهو على قسمين:
١ ـ أن يكون تأذيه ناشئاً من شفقته على ولده، فيحرم التصرف المؤدي إليه سواء نهاه عنه أم لا.