فإذا كان الأمر كذلك، فعلى صاحب البصر النافذ أن يتزود من نفسه لنفسه، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه، ومن صحته لمرضه، ومن فراغه لشغله، ومن غناه لفقره، ومن قوته لضعفه، فما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار سوى الجنة أو النار، "فأما من ثقلت موازينه. فهو في عيشة راضية. وأما من خفت موازينه. فأمه هاوية. وما أدراك ما هيه. نار حامية"[القارعة: ٦-١١] ، فمن أصلح ما بينه وبين ربه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن صدق في سريرته حسنت علانيته، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه فلا بد من وقفة جادة وصادقة لمحاسبة النفس، فالمحاسبة الصادقة هي ما أورثت عملاً صادقاً ينجيك من هول المطلع.
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" فكان ابن عمر –رضي الله عنهما- يقول:"إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" أخرجه البخاري (٦٤١٦) أتدري كم كان عُمْر عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما عندما قال له النبي ذلك كان عمره عشرون سنة!
فيا غافلاً عن مصيره، يا واقفاً مع تقصيره، سبقك أهل العزائم وأنت في بحر الغفلة عائم، قف على باب التوبة وقوف نادم، ونكس الرأس بذل وقل: أنا ظالم، وناد في الأسحار، مذنب وراحم، وتشبه بالصالحين إن لم تكن منهم وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب ودمع ساجم، وقم في الدجى داعياً، وقف على باب مولاك تائباً، واستدرك من العمر ما بقي ودع اللهو جانباً، وطلق الدنيا والمعاصي والمنكرات إن كنت للآخرة طالباً.
أتراك بعدما ذقت حلاوة الطاعة والعبادة تعود إلى مرارة العصيان؟ أتراك بعدما ذقت لذة الأنس والقرب والمناجاة تعود إلى لوعة البعد والهجر والحرمان؟ أتراك بعدما صرت من حزب الرحمن تنقلب على عقبيك فتنضم إلى حزب الشيطان؟ أتراك بعدما حسبت في عداد المصلين تترك الصلاة وهي عماد الدين، والفارق بين الكفار والمؤمنين، وتكتب من الغافلين؟ هل يليق بك بعدما كنت براً تقياً أن تصبح جباراً شقياً؟ ما هكذا يكون المؤمن، بل ما هكذا يكون العاقل المتبصِّر.
قال تعالى:"وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً"[النحل: من الآية٩٢] ، فإياك ثم إياك من نقض الغزل بعد غزله ... أرأيت لو أن إنساناً غزل غزلاً ثم صنع منه قميصاً أو ثوباً جميلاً.. فلما نظر إليه وأعجبه ... جعل يقطع خيوط هذا الثوب وينقضها خيطاً خيطا وبدون سبب.. فماذا يقول عنه الناس؟ ...
فهذا حال من يرجع إلى المعاصي والفسق والمجون، ويترك الطاعات والأعمال الصالحة، وفعل الخير ومصاحبة الصالحين، فإياك أن تكون من هذا الصنف المغبون.