* وأما سؤالك عن وسيلة أخرى غير مشاهدة الآيات الكونية بها نعرف ربنا -جل وعلا- فهذه نصوص الوحيين من الكتاب والسنة مليئة بالدلالات والحجج والبراهين على ربوبية الله وألوهيته، ثم إنا نذكِّر بدليل الفطرة، فإن الإنسان ينزع بفطرته إلى الاعتراف بوجود الله وربوبيته وسلطانه على هذا الكون، وما أكثر من شرح الله صدورهم إلى معرفة الله والإيمان به، وحبب إليهم ذلك وزينه في قلوبهم دونما حاجة إلى تكلف استدلال، وقد ذكر العلماء أن من كانت نفسه تنازعه إلى الاستدلال وطلب البرهان، ولا تستقر إلا بذلك وجب عليه طلب الدلائل، وأما من استقرت نفسه، وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقاً من الله وتيسيراً لما خلق له فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا تكلف استدلال، وهؤلاء هم جماهير الناس ممن حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون.
قال ابن حزم رحمه الله (وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً، وشاهدناه في ذواتنا يقيناً، فلقد بقينا سنين كثيرة ولا نعرف الاستدلال ولا وجوهه، ونحن -والحمد لله- في غاية اليقين بدين الإسلام، وكل ما جاء به محمد-صلى الله عليه وسلم- نجد أنفسنا في غاية السكون إليه، وفي غاية النفاد عن كل ما يعترض فيه شك، ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان، فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لها، كما أخبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إذ سئل عن ذلك، فقالوا: إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحب إليه أن يتكلم به، فأخبر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك محض الإيمان، وأخبر أنه من وسوسة الشيطان، وأمر -صلى الله عليه وسلم- في ذلك بما أمر به من التعوّذ والقراءة والتفل عن اليسار، وقال ابن حزم- ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها -ولله الحمد- فما زادنا يقيناً على ما كنا، بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق) .
(انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل بهامشه الملل والنحل٤/٣٢-٣٣)
* وأما السؤال عن كيفية التصديق بما وقع خارج حدود بصرنا، فإن هذا من إيرادات الملاحدة الذين لا يؤمنون إلا بما يحسونه بوسائل الحس المعهودة، وهم في واقع الأمر مكابرون ومغالطون للحقائق، فما أكثر ما يسلمون بوجوده مما لا يقع تحت طائلة حواسهم، وقد تراجع كثير منهم عن هذه المزاعم، وننصح السائل -إن كان قد ابتلي بمناقشة هؤلاء- أن يراجع الكتب التي عنيت بالرد على النظريات الإلحادية. والله أعلم.