وإنما أتى الخلف من قبل قصور فهمهم لمنهج السلف، فإن الأشاعرة ونحوهم يظنون أن السلف مفوضة، أي يبثون ألفاظ نصوص الصفات، ويفوضون معانيها! وهذا في نظرهم يفتح باب التشبيه على العامة، ثم يرون أن الطريقة الأعلم والأحكم الاجتهاد في التأويل، باستخراج معاني مجازية يحملون عليها نصوص الصفات، مع قطعهم أن الصحابة والتابعين لم يتكلموا بذلك، يقول ناظمهم:
وكل نصٍ أوهم التشبيها *** فوضه أو أول ورم تنزيها.
والحق أن السلف الصالح أثبتوا ألفاظ الصفات، وأثبتوا ما دلت عليه من المعاني اللائقة بالله، على ما تقتضيه لغة العرب، دون تمثيل، وفوضوا كيفية ذلك لله تعالى كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله، لمن سأله عن كيفية الاستواء.
(الاستواء غير مجهول) أي غير مجهول المعنى في لغة العرب، إذ هو العلو والاستقرار (والكيف غير معقول) أي أن له كيفية، لكن لا يمكن لعقولنا إدراكها.
(والإيمان به واجب) لكون الله أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم-.
(والسؤال عنه بدعة) أي السؤال عن كيفية الاستواء لم يكن من فعل الصحابة - رضي الله عنهم، فالسلف في باب الصفات يثبتون الألفاظ والمعاني ويفوضون الكيفية. والمفوضة يثبتون الألفاظ، ويفوضون المعاني.
والأشاعرة يثبتون الألفاظ، ويؤولون المعاني، أي يصرفونها عن ظواهرها، إلى معانٍ اقترحوها والمشبهة يثبتون الألفاظ ويثبتون المعاني على ما يعهدونه من حال المخلوقين، ولا يفوضون الكيفية، فتبين بهذا أن طريقة السلف هي الجامعة بين الإثبات والتنزيه، السالمة من التمثيل والتعليل، وأنها بذلك: أسلم وأعلم وأحكم، ولا يمكن لأحد من الأشاعرة وغيرهم أن يثبت نصاً واحداً عن واحد من الصحابة أو التابعين أو الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف المعروفين يؤول فيها نصاً واحداً من كلام الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل كلهم مطبقون على رواية نصوص الصفات وإمرارها لفظاً ومعنى؟ دون التعرض لتأويلها.