ومسألة الوطنية مزيجٌ وأخلاطٌ من هذا وذاك: مِن الموافِقاتِ للشريعة والمخالِفات لها، والموقف الصحيح مما هذا شأنه: هو أن تُسبر مقتضياتها ودلالاتها بمسبار الشرع واحدةً بعد أخرى، فلا يُحكم على الشيء كله بخطأ بعضه، وإنما يؤخذ مسألة مسألةً لا جملةً واحدةً، فالحقّ يُحَقّ، والباطل يُبطلُ.
إنَّ الانتماء للوطن بمجرده لا محذور فيه، كما لا محذور في مجرد الانتساب للقبيلة، فقد كان صحابة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ينتمون إلى قبائلهم ويُنسبون إلى أوطانهم، فهذا أوسيٌّ، وذاك خزرجي، وهذا أنصاري، وذاك مهاجري، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمعها منهم فلا ينكرها عليهم.
فمجرد الانتماء للتعريف وإثبات النسب ونحو ذلك ليس فيه معرَّة ولا مضرة، حتى إذا جاوزتْ ذلك واستحالت عصبيةً ورابطةً يُنتصر لها دون عصبيّة الإسلام ورابطتِه، كبحها -صلى الله عليه وسلم- ونهاهم عنها، وقال:"ما بال دعوى الجاهلية؟ ... دعوها فإنها منتنة" رواه البخاري (٤٩٠٥) ومسلم (٢٥٨٤) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
فمن المرفوض قطعاً ما يدعو إليه غُلاة الوطنية من أن يكونَ عطاءُ المواطِن واهتمامه قاصراً على وطنه، وولاؤه محدوداً بحدوده، وأن يَجعل له من قضايا وطنه شُغلاً عن كل شغل، فلا يعنيه شيء خارج حدود بلده.
لا بأس أن تكون اهتماماتُنا بقضايا وطنِنا أكثر، فالأقرب أولى من الأبعد، والأقربون أولى بالمعروف، ولكن لا يجوز أن تكون اهتماماتُنا محصورةً فيه فلا تُجاوِزُه قَيْد أُنمُلة. فأين هي إذاً وشيجةُ الدين، وأين هي حقوق المسلمين؟.
إن بعض مقتضيات الوحدة الوطنية لهو مما يقصده الإسلام ويدعو إليه؛ كالمحافظة على أمن البلاد وأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم، وحماية ثروات الوطن ومقدراته، وكالدعوة إلى المساواة والعدل، ومدافعة الظلم ومعاقبة الظَّلمَة، وهذا كله يدخل في باب التعاون على البر والتقوى.