ثانياً:- أن يغلب على الظن أنه لا يترتب على إزالة هذا المنكر - وهو هنا نبش القبور أو هدم القباب - ألا يترتب على إزالته منكر أكبر كالاعتداء على أهل السنة وعلى ممتلكاتهم، ومساجدهم ودعاتهم، واستغلال هذا الفعل واتخاذه ذريعة لإثارة الرأي العام ضدهم وضعفهم بما ينفر العامة منهم، وطردهم، أو مقاتلتهم.. أو نحو ذلك مما يحول بينهم وبين دعوة الناس وبيان الحق لهم وقبولهم والأخذ عنهم، كأن يمنعوا من الخطابة والتدريس والوعظ ... فينقطع الخير الواصل منهم إلى الناس، وينفر الناس منهم، فتخفى معالم الحق وتندرس آثاره، ويعود الناس إلى تعظيم الباطل أضعافاً مضاعفة ويستوحشون من دعاة الحق لسنوات طويلة. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبادر إلى تكسير الأصنام الموجودة في جوف الكعبة وهو في مكة ولا حين اعتمر بعدما هاجر إلى المدينة، بل تركها حتى دخل فاتحاً منصوراً ذا قوة ومنعة وترك البيت على بناء قريش ولم يعد بناءه على قواعد إبراهيم لأن قومه حديثو عهد بجاهلية ولم يقتل عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق مع علمه صلى الله عليه وسلم بحاله، وقال:- "لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" البخاري (٣٥١٨) ومسلم (٢٥٤٨) . ونهى الله سبحانه المسلمين أن يسبوا آلهة المشركين حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى سب الله تعالى، قال تعالى "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم"[الأنعام: ١٠٨] . ونوح عليه الصلاة والسلام دعا قومه زمناً طويلاً ولم يعرف عنه ولا عن أحد من أتباعه أنهم أقدموا على تحطيم الآلهة المتبعة ولا قاموا بنبش القبور المعظمة من دون الله، لأنهم كانوا قلة مستضعفين في قومهم. قال سبحانه:- "....وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ... "[نوح: ٢٣-٢٤] .
وقد تعاقب العلماء والمصلحون في هذه الأمة، وكانوا يحذرون من هذه البدع وينالهم بسبب ذلك الأذى، لكن لما كانوا على علم بحال الناس وأن الملوك والسلاطين ليس فيهم من الشجاعة والعلم بفساد هذه المسالك الموجب لطمسها والحيلولة بين الناس وبينها، بل كان كثير من السلاطين يرون أن تثبيت ملكهم وكون العامة إلى جانبهم آثر لديهم من القيام بواجب إزالة هذه المنكرات، إن لم يكونوا هم من جملة من يعظمها. أقول: قد كان العلماء والمصلحون يرون ذلك فيرون من تعارض المفاسد والمصالح ما جعلهم يتوقفون عن الإقدام على إزالة هذه المشاهد لترجح حدوث مفاسد أعظم لو أقدموا على إزالتها.