للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد وقع في السيرة ما يوضح ذلك عمليًّا، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "المنهاج" (٨/٤٢٩) : "ولهذا لما جاءه المخلفون عام تبوك، فجعلوا يحلفون، ويعتذرون، كان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لا يصدق أحداً منهم، فلما جاء كعب، وأخبره بحقيقة أمره، قال:"أما هذا فقد صدق" أو قال: "صدقكم".

ثم إن الصحابة -رضي الله عنهم- وإن لم يعلموا بعض المنافقين بأعيانهم، إلا أنهم كانوا يعرفونهم بصفاتهم، وهذا متيقن.

وفي السنة أمثلة كثيرة تدل على علم الصحابة بصفاتهم، وعلاماتهم، أكتفي منها بثلاثة أمثلة:

(١) قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -وهو يتحدث عن صلاة الجماعة- كما في صحيح مسلم (٦٥٤) : (ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق) .

(٢) قول كعب بن مالك رضي الله عنه -وهو يحكي قصة تخلفه عن غزوة تبوك-: (فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء) . صحيح البخاري (٤٤١٨) ، وصحيح مسلم (٢٧٦٩) .

(٣) ما رواه البخاري في صحيحه (٤٦٦٨) ، ومسلم في صحيحه (١٠١٨) عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: أمرنا بالصدقة، قال: كنا نُحامل، قال: فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء ... الحديث.

والشاهد منه قوله: فقال المنافقون، فإنه ظاهر في معرفة الصحابة لهؤلاء المنافقين بصفاتهم، ومواقفهم، ولحن قولهم.

ثانياً -من أسباب عدم تتبع أسمائهم-:

أن خطورتهم الكبرى على الدعوة الإسلامية كانت تتمثل في العهد النبوي -إبان حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أكثر من غيرها، ولما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهب بعض الخطورة، وإلا فإنهم -كما قال الله عنهم-: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون:٤] .

وليس كما قال السائل: اختفوا فجأة! بل هم موجودون، ولكنهم قلة، وذليلة -أيضاً-.

ثالثاً -من أسباب عدم تتبع أسمائهم-:

أن أعدادهم بدأت بالتناقص في أواخر العهد النبوي، فضلاً عن عهد الخلفاء الراشدين ـ رضوان الله عليهم ـ ولذلك أسباب أهمها -في نظري- أمران:

الأمر الأول: موت كبارهم، ورؤسائهم كابن أُبيّ وأضرابه.

الأمر الثاني: فضحهم بالآيات التي كشفت دسائسهم، وبينت خباياهم.

قال الله تعالى: "يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ". [التوبة:٦٤] .

قال ابن عباس رضي الله عنهما -كما في الصحيحين-: "التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل (ومنهم، ومنهم) ، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "المنهاج" (٨/٤٧٤) : "وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن، وغير ذلك".

<<  <  ج: ص:  >  >>