فالجواب: نحن نؤمن بكل ما ثبت عندنا في الكتاب والسنة الصحيحة، ومما ثبت عندنا أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو أحبّ الخلق إلى الله وأفضلهم، وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وهو النبي الوحيد الذي يشفع عند الله ليفصل بين العباد، وهذا هو المقام المحمود الذي بسببه يُحمده الخلائق كلهم، وجميع الأنبياء صلوا خلفه يوم الإسراء، بل جميع الأنبياء مأمورون باتباعه إذا بُعث وهم أحياء، ويجب عليهم ترك شريعتهم واتباع شريعة محمد -صلى الله عليهم وسلم- والأدلة على هذا المعنى كثيرة جداً.
الوجه الثاني:
إن اختصاص أي نبي بفضيلة دون غيره لا يعني أنه أفضل من بقية الأنبياء، فقد خص الله -سبحانه وتعالى- بعض الأنبياء ببعض الفضائل، فخصَّ موسى -عليه السلام- بأن كلمه بدون واسطة ملك وموسى في الأرض، وخصّ سليمان -عليه السلام- بجنوده من الجن والطير، وأتاه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وغير ذلك من الخصائص المذكورة للأنبياء، ومن ذلك ما خصّ الله به مريم بنت عمران وعيسى عليه السلام من سلامتهما من مسَّ الشيطان لهما عند الولادة.
وتفرّد الشخص بفضيلة دون غيره لا يعني أنه أفضل من الجميع وإلا لزم أن يكون موسى أفضل الأنبياء بما خصّه الله، وأن يكون سليمان أفضل الأنبياء بما خصّه الله، وهذا تناقض غير مقبول، ولذلك الصواب أن الإنسان تتبيّن منزلته بمجموع فضائله لا بفضيلة واحدة. وهذا حتى في حق عامة الناس، أرأيت لو أن شخصاً في قرية لا يكذب أبداً ولا يُعرف عنه إلا الصدق، وما من أحد في القرية إلا قد وقع منه كذب، لكن هذا الشخص الذي لم يكذب قط، يظلم، ويسرق، ويقتل، وأهل القرية لا يفعلون ذلك أفتكون هذه الفضيلة كافية لجعله خير أهل القرية؟ أم لابد من النظر في مجموع ما للإنسان من فضائل وحسنات؟
وقد ثبت لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من الفضائل ما تفرّد به عن غيره من الأنبياء وقد مرَّ ذكر بعضها. وإن من فضائل محمد -صلى الله عليه وسلم- أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ وذلك لعظم منزلته عند الله.
وما ذُكر في حديث الشفاعة من أن عيسى لم يذكر خطيئة لا يعني عدم وقوع شيء من ذلك منه، بل جاء في بعض طرق الحديث أن عيسى -عليه السلام- يقول:"إني عُبدت من دون الله"، وقع ذلك في رواية الترمذي من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد، وفي رواية أحمد والنسائي من حديث ابن عباس:"إني اُتخذت إلهاً من دون الله"، وفي رواية ثابت عند سعيد بن منصور نحوه، وزاد:"وإن يغفر لي اليوم حسبي" [فتح الباري (١١/٤٣٥) ] .
وهذا يُبيّن سبب اعتذار عيسى -عليه السلام- من الشفاعة. كما أن في الحديث حجة على النصارى المحتجين به، لأن عيسى -عليه السلام- اعتذر عن الشفاعة، وأنه لا يستطيعها بقوله:"لست هناكم، ائتوا محمداً -صلى الله عليه وسلم-". وهذا دليل بيّن واضح على أن عيسى -عليه السلام- يعتقد أن محمدا أفضل منه، ولذلك أشار على الناس بالذهاب إليه. والله أعلم.