وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت:"ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تعد علمهن إياه جبريل عليه السلام".. فإن من القرآن ما استأثر الله -تعالى- بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله كما صرح بذلك ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: التفسير على أربعة: أوجه وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
إن القرآن الكريم هو المعجزة الباقية لخاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-, والمتحدى بلفظه ومعناه, ولهذا لا خلاف عند المحققين أن بيان وجوه الإعجاز فيه، وإن كان فرض كفاية على الأمة فهو فرض عين على القادرين, وقد اشتغلوا بدراسته خاصة في مجال البلاغة، وأفردوا له الكثير من المصنفات، واعتمدوا مصطلح "إعجاز القرآن", وليس مصطلح (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) الذي شاع اليوم إلا امتداداً لجهود أعلام الأمة في ذلك المجال, غير أنه يختص بتقديم (البينة العلمية) على أن القرآن الكريم هو كلام الله؛ لأنه يستحيل أن يعلم بشر زمن التنزيل بما أخبر به القرآن، وجاءت الكشوف العلمية بعد أكثر من عشرة قرون لتعترف بصدقه، وتقر به جميعاً رغم تعدد مجالاته ووفرته.
وقد أكثر السيوطي من ذكر تصانيف الإعجاز للسابقين عليه؛ منها: (إعجاز القرآن للخطابي، وللرماني ولابن سراقة، وللقاضي أبي بكر الباقلاني، ولعبد القاهر الجرجاني، وللإمام فخر الدين، ولابن أبي الإصبع واسمه البرهان وللزملكاني واسمه البرهان أيضا ومختصره له واسمه المجيد، ومجاز القرآن لابن عبد السلام والإيجاز في المجاز لابن القيم، ونهاية التأميل في أسرار التنزيل للزملكاني.. وبدائع القرآن لابن أبي الإصبع.. وأسرار التنزيل للشرف البارزي.. ومناسبات ترتيب السور لأبي جعفر بن الزبير، وفواصل الآيات للطوفي، والمثل السائر لابن الأثير.
قال ابن كثير: (ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء.. في غاية نهايات البلاغة، وكلما تكرر حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرد ولا يمل منه العلماء، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" لفظ مسلم؛ وقوله وإنما كان الذي أوتيه وحيا أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه.
وقال السيوطي: (لا ترى شيئاً من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظماً أحسن تأليفاً وأشد تلاؤماً وتشاكلاً من نظمه, وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقدم في أبوابه والترقي إلى أعلى درجاته.