وقال الخطابى: (وقلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه, قال الله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله", وقال تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم" الآية.
قلت: ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم- للطور حتى انتهى إلى قوله "إن عذاب ربك لواقع", قال: خشيت أن يدركني العذاب، وفي لفظ: كاد قلبي يطير فأسلم, وفي أثر آخر أن عمر - رضي الله عنه- لما سمع سورة طه أسلم، وغير ذلك.
وقول أهل التحقيق إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد عن انفراده فإنه جمع كله، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع، بل وغير ذلك مما لم يسبق.
وقال القرطبي: (.. ومنها الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي. وقال ابن كثير: (يقول تعالى مقسماً لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم أن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله على عبده ورسوله الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، فقال تعالى: "فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم".. ولهذا قال تعالى: "تنزيل من رب العالمين"؛ لأن الله -عز وجل- مقرر له ما يبلغه عنه، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات، ولهذا قال: "وإنه لحق اليقين" أي الخبر الصادق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب.
وقد ادخر القرآن الكريم كثيراً من الآيات للأجيال في عبارات معلومة الألفاظ، لكن الكيفيات والحقائق لا تتجلى إلا حينا بعد حين, يقول تعالى: "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" [ص: ٨٧ - ٨٨] , وقد فسر الطبري معنى الحين بقوله: (فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت.
فلكل نبأ في القرآن زمن يتحقق فيه، فإذا تجلى الحدث ماثلاً للعيان أشرقت المعاني وتطابقت دلالات الألفاظ والتراكيب مع الحقائق, وهكذا تتجدد معجزة القرآن على طول الزمان, يقول العلي القدير: "وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" [الأنعام ٦٦و٦٧] .
ونقل ابن كثير عن ابن عباس - رضي الله عنهما- تفسيره للمستقر بقوله: (لكل نبأ حقيقة، أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين) .
وقد تردد هذا الوعد كثيراً في القرآن الكريم بأساليب متعددة، كما في قوله تعالى: "ثم إن علينا بيانه" [القيامة: ١٩] , وقوله: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" [فصلت: ٥٣] , وقوله: "وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها" [النمل ٩٣] .