للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففي الحديث الأول مشروعية وضع العلامة على القبر ليعرف بها، ويتميز عن غيره، وفيه تحديد موضع العلامة من القبر (عند رأسه) ، وكون الحجر كبيرًا لم يستطع الرجل حمله حتى حمله الرسول صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين، دليل على كبر حجم العلامة على القبر، والحجم يشمل الطول والعرض والارتفاع، وكون العلامة على القبر حجارة- كما في الحديث- لا يعني أنه لا يجوز أن تكون من غيرها؛ ذلك لأنها جاءت وصفًا لبيان الحال والواقع، والقيد أو الوصف إذا جاء لبيان الحال في الواقع فلا مفهوم له عند علماء الأصول، وعليه يجوز أن تكون العلامة على القبر لبنة من طين، أو عود قصب أو خشب، أو طوبة، أو حديدة، أو كسرة رخام أو بلاط، ونحو ذلك، وقد نص الفقهاء، كما في حاشية الشيخ ابن قاسم على الروض المربع: "ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشب، ونحوهما". واستدلوا بحديث عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، هذا، أما قول جمهور الفقهاء: "ولا يُدخِلُ القبرَ آجُرًّا ولا خشبًا، ولا شيئًا مسته النار". فيراد به ما يوضع في اللحد داخل القبر، ولا دخل لهذا القول في علامة القبر التي توضع فوقه، وهذا القول من الفقهاء تفاؤل بألَّا تمسه النار، مع أن السلف مختلفون فيما يوضع داخل القبر، فقد روى أحمد (١٧٧٨٠) ، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه- أنه قال: لا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرًا.

أوصى الصحابي عمرو بن شُرَحْبِيلَ، رضي الله عنه: أن اطْرَحُوا عَلَى قَبْرِي طُنًّا من قَصَبٍ؛ فقد رأيتُ المهاجرين يَسْتَحِبُّونَه على ما سِواهُ. والطن يعني الحزمة، والحسن البصري لا يرى بأسًا بالقصب والسَّاجِ في اللحد، والساجُ نوع من الخشب، وبوب البخاري في صحيحه: (باب الإذخر والحشيش في القبر) . وساق فيه الحديث الصحيح عن ابن عباس، رضي الله عنهما- (١٣٤٩) عندما قال العباس، رضي الله عنه: إلا الإِذْخِرَ لصاغَتِنا وقبورِنا.

أما النهي عن الكتابة في حديث جابر، رضي الله عنه- السابق ذكره، فليست عند مسلم ولا النسائي؛ وإنما هذه الزيادة عند الترمذي، وإسناده بهذه الزيادة ضعيف؛ لضعف أحد رواته، وهو موسى بن سليمان، قال فيه البخاري: متروك. وضعفه النسائي، وابن عدي، وأيضًا في الإسناد انقطاع، فإن موسى بن سليمان لم يدرك جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، وعلى فرض صحته فيُحمَل النهي عن الكتابة على القبر، إذا ما أوصى الرجل إذا مات أن يكتب على قبره، كما حمل حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، في الصحيحين: "إنَّ الميتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". صحيح البخاري (١٢٨٦) ، وصحيح مسلم (٩٢٨) . على ما إذا أوصى بذلك، أو تحمل الزيادة عند الترمذي على ما إذا كُتب على القبر اسم صاحبه أو دعاء له، أو شيء من سيرته وأفعاله في حياته، وتزداد الحرمة، ويشتد النهي إذا كان الميت ذا شأن يشار إليه في أمر الدين أو الدنيا، ولا يدخل في الكتابة الممنوعة شرعًا ما يضعه الناس من (وسم) القبيلة على القبر؛ لأنه مجرد علامة تميز القبر عن غيره عند تشابه (النصائب) العلامات؛ ليزوره الزائر ويسلم عليه، وهذا الوصف لا يعرفه عادة إلا أهلهم بخلاف الكتابة بالحروف الهجائية فيعرفها كل من يقرأ من الناس.

<<  <  ج: ص:  >  >>