ولئن كان هناك خلافٌ في المراد بالفريق الثالث، فلا خلاف في المراد بالمهاجرين والأنصار وفي عموم ثناء الله تعالى عليهم جميعاً.
وقال تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" [التوبة:١٠٠] .
وفي هذه الآية ذكرٌ لعموم المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بأنهم قد رضي الله تعالى عنهم، وأنهم قد رضوا بثواب الله لهم، وأنه قد أعدّ لهم الجنة جزاء لإيمانهم وإحسانهم.
وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" صحيح البخاري (٢٦٥٢) ، وصحيح مسلم (٢٥٣٣) .
وهذا فيه بيان أن جيل الصحابة أفضل الأجيال على الإطلاق.
وفي الحديث المتفق عليه أيضاً أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: "لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" صحيح البخاري (٣٦٧٣) ، وصحيح مسلم (٢٥٤١) .
وأي مخالفة لهذا النهي النبوي أشدُّ من أن يوصف أحد الصحابة بعدم العدالة، أي بالفسق؟!
وفي خطبة حجّة الوداع، التي حضرها مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عامّة الصحابة، يقول صلى الله عليه وسلم في آخرها –كما في الصحيحين وغيرهما-: "ألا ليبلغ الشاهد الغائب" صحيح البخاري (٦٧) ، وصحيح مسلم (١٦٧٩) .
قال ابن حبان في مقدمة صحيحه (١/١٦٢) : "فيه أعظمُ الدليل على أن الصحابة كُلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم مجروح أو ضعيف، أو كان فيهم أحدٌ غير عدل لاستثنى في قوله –صلى الله عليه وسلم- وقال: ألا ليبلّغ فلانٌ وفلانٌ منكم الغائب. فلمّا أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ لمن بعدهم، دلّ ذلك على أنهم كلّهم عدول، وكفى بمن عَدّل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- شرفاً".
وفي حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- الذي رواه مسلم في مقدمة صحيحه (٦) ، وصححه ابن حبان والحاكم، وهو صحيح كما قالا، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون في آخر الزمان ناسٌ من أمتي يحدّثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيّاكم وإيّاهم".
قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (٢/١٤) ، "لمّا أخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بكذّابين يكونون في آخر الزمان يكذبون عليه، عُلِم أن الأول –وهم أصحابه- خارجون من هذه الجُملة، وزائلة عنهم التُّهمة".
وهذه النصوص من الكتاب وثابت السنة تقطع بعدالة الصحابة وضبطهم، وأنهم منزّهون عن الشك في عدالتهم أو في صحّة نقلهم.
على أنه لو لم يرد من الله -عز وجل- ورسوله –صلى الله عليه وسلم- فيهم شيءٌ مما ذكرناه، لأوجبت الحالُ التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد والنُّصْرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين= القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدَّلين والمزكَّين، الذين يجيئون بعدهم إلى يوم الدين" كما قال الخطيب البغداي في الكفاية (٦٦-٦٧) .