إذن: فالأصل في الصحابة العدالة ومتانة الديانة، هذا هو الأصل المتيقن الذي قطعت به تلك النصوص القطعية. واليقين لا يزول بالظنون، إنما يزول باليقين، فمن ثبتت صحبته فهو عدلٌ، لشمول تلك النصوص في دلالاتها له في إتيان العدالة. ولا نترك هذا الأصل، إلا إذا خالفه في أحدهم دليلٌ يقينيٌّ يخصُّه، فيكون من باب تخصيص العام، فيُخْرَجُ بهذا الفرد عن دلالة ذلك العموم، مع بقاء دلالة العموم على ما هي عليه في غير ذلك المخصَّص.
أمّا من ثبتت ردته ممن كان ظاهره الصُحْبة، نعلم أنه ليس صحابيًّا أصلاً، وأن النصوص لا تتناوله أصلاً؛ لأن الصحابي هو: من لقي النبي –صلى الله عليه وسلم- مميَّزاً مؤمناً به ومات على الإسلام. فمن مات على الكفر ليس صحابيًّا أصلاً.
وأمّا من ثبت عليه الفسق، كمن أنزل الله تعالى فيه قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا"[الحجرات: ٦] ، بغض النظر عن اسمه، فإن في هذه الآية إثباتاً بأن هناك من كان قد نقل خبراً غير صادق إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- فوصفه الله تعالى بأنه فاسق، ومنْ يستطيع أن يدّعي في هذا أنه عدل بعد تفسيق الله تعالى له = فهذا هو الذي نخصُّه من ذلك العموم، ونُخرجه من بين بقيّة الصحابة الذين ثبتت عدالتهم، لورود ما يدل على عدم شمول النصوص له يقيناً.
ولذلك فأصوب التقريرات حول عدالة الصحابة هو أن نقول: الصحابة كلّهم عدول، بمعنى أن الأصل فيهم العدالة، إلا إذا دل الدليل الثابت الذي لا يحتمل التأويل والاعتذار على غير ذلك في واحدٍ منهم، عندها يمكن أن نستثني ذلك الفرد من عموم النصوص الدالة على عدالة الصحابة.
وبحمد الله تعالى فإنه لم تأتنا سنةٌ عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للناس إليها حاجةٌ في دين الله تعالى قد انفرد بها أحدٌ ممن ذُكر فيهم طعنٌ في عدالتهم ممن لقي النبي –صلى الله عليه وسلم- ومات على الإسلام.
بل: عموم ما يُنقل عن الصحابة ممّا شجر بينهم، وغيره ممّا يتّخذ الجهلةُ وأهل البدع سبباً للطعن عليهم = هو مما للصحابة فيه تأويلاتٌ حسنة، يؤيدها ثناءُ ربّنا عز وجل على حُسن مقاصدهم في أفعالهم "يبتغون فضلاً من الله ورضواناً" أو أنه خطأٌ وذنبٌ مغمور في بحار حسناتهم، فلا يؤثر في عدالتهم، كما قال –صلى الله عليه وسلم- عن حاطب بن أبي بلتعة –رضي الله عنه- عندما ارتكب كبيرةً من الكبائر، وهي التجسُّس للكفار، فقال –عليه الصلاة والسلام-: "لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرتُ لكم" صحيح البخاري (٤٨٩٠) ، وصحيح مسلم (٢٤٩٤) . وكما قال –صلى الله عليه وسلم- عمن لعن شارباً للخمر، أُتي به شارباً لها أكثر من مَرّة:"لا تلعنوه، فو الله ما علمت: إنه يحبُّ الله ورسوله". صحيح البخاري (٦٧٨٠) . أو أنه قد وقع منهم الخطأ والذنب، لكنهم عاجلوه بالتوبة الصادقةِ الماحية المبدّلةِ –بفضل الله- السيئات حسنات، كما أخبر تعالى عن الثلاثة الذين خُلّفوا في غزوة تبوك.