ولكن ثمة فرقاً بين هذه المحادثة المباشرة وبين المراسلة عبر البريد الإلكتروني؛ فخطورة الاستطراد والاستدراج في المكاتبة المباشرة أشد منها في المراسلة غير المباشرة إلى حد بعيد، ففي الحديث المباشر يسهل على الشاب أن يختلق للفتاة أجواءً من الرومانسية، فيسيطر على مشاعرها ويستدرجها إلى مآرب غير معلنة بادئ الأمر، كما أن الفتاة قد تسرع إلى الاستجابة لمعسول كلامه من غير تفكير ولا روية، لأنهما يتداوران الكلام كما لو كانا يتحادثان عبر الهاتف، فمجال التروي والتفكير فيه قصير قصر ما بين تعاقبهما في الحوار.
فالقول بتحريم المراسلة عبر البريد الإلكتروني بغرض الزواج -سداً للذريعة وخشية على المرأة أن تضعف وتستجيب لحبال أهل الشهوات - أراه من البالغة في العمل بسد الذرائع، فليس هو بمظنة الفتنة، وفي ذلك تضييق لمساحة المباحات والرخص.
إن الإذن للمرأة بمراسلة الشاب فيما يخص موضوع الزواج ليس هو الذي يجعلها تضعف أمام تلك الرسائل التي تخرج عن الموضوع المقصود إلى العلاقات العاطفية المريبة.
إنما الذي جعلها تضعف لمعسول الكلام، وتستجر لأهداف مريبة هو التقصير في توعيتها بالخطاب المؤثر، حتى خبت جذوة الإيمان في قلبها، وهان عليها مخالفة أمر الله.
إن الأولى من انتهاج المبالغة في سد الذرائع أن نضاعف جهودنا في تجديد خطاب الوعظ، وأساليب الترهيب والترغيب، وأن نتوخى في ذلك ما هو أشد تأثيراً وأعذب لفظاً وألين أسلوباً، بحيث يبرز فيه احترام ذات المرأة وإحسان الظن بها بقدر ما تختفي فيه لغة الاتهام وإطلاق الأحكام جزافاً، وبحيث يجمع بين مخاطبة العقل وإحياء العاطفة، وبين المنطق العقلي والأسلوب البليغ المؤثر، والمرأة بحاجة إلى من يقنعها لا إلى من يقرعها ويضفي عليها الأوصاف المشنوءة.
إن المرأة قد تخطئ وتزل قدمها في مزالق الشيطان، فيتعين حينئذ الأخذ بيدها وتخويفها، غير أن تحذيرها من هذه المزالق المردية لا يضطرنا أبداًَ إلى أن نسيء بها الظن، أو نطلق عليها الأحكام جزافاً، ونرميها بالتهمة، ونؤاخذها بالظنة.
وأحسب أننا نخطئ التقدير حين نظن أن المرأة أضعف من الرجل أمام المغريات وذرائع الفتنة، وأنها أسرع استجابة وأيسر استدراجاً إلى مهيع الفاحشة.
والذي يظهر أن الرجل هو الأضعف والأسرع استجابة، والأيسر في الاستدراج بشهادة الواقع.
وخطاب الوحي المقدَّس يشي بهذا، كما في قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ... الآية"، فبدأ بالأنثى قبل الذكر، لأن الإغواء والإغراء أكثر ما يقع منها هي، يظهر أمامه ضعف الرجل، فيسارع للاستجابة والمطاوعة، ولكن في السرقة بدأ بالذكر قبل الأنثى، لأن حب المال في جنس الرجال أكثر منها في جنس النساء: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ... الآية".
وإنما توهمنا أن المرأة هي الأضعف، لأن الرجل في الغالب طالب، والمرأة مطلوبة، ومن كان شأنه أن يكون مطلوباً ليس بمستغرب أن يرى الضعف والاستجابة والمطاوعة أكثر مما يرى من الرجل؛ لأنه في الغالب هو الذي يطلب الطرف الآخر، ويسعى للاستحواذ عليه.