قال النووي في شرح مسلم: وَمَعْنَى نَظَر الْفَجْأَة أَنْ يَقَع بَصَره عَلَى الْأَجْنَبِيَّة مِنْ غَيْر قَصْد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ فِي أَوَّل ذَلِكَ, وَيَجِب عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِف بَصَره فِي الْحَال, فَإِنْ صَرَفَ فِي الْحَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ, وَإِنْ اِسْتَدَامَ النَّظَر أَثِمَ لِهَذَا الْحَدِيث, فَإِنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِف بَصَره مَعَ قَوْله تَعَالَى: "قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم".
اصرف بصرك ولو أن تضطر لإغماض عينيك، واعلم يا عبد الله أنك إنما تتعامل مع الله، مع ربك ومولاك، من إذا غضب ألقى بك في نار وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم.
القاعدة الثانية: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) . رواه أبو داود (٢١٤٩) ، والترمذي (٢٧٧٧) ، وهو حديث حسن.
وهذه قاعدة متصلة بالقاعدة السابقة، ومكملة لها، وهي قاعدة ذهبية في غض البصر وحفظه عن الحرام، قال ابن الجوزي: وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب, ولا يتأمل بها المحاسن, ولا يقع الالتذاذ بها, فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم.
القاعدة الثالثة: تجنب الجلوس والتسكع في الطرقات:
في صحيح البخاري (٢٤٦٥) ، وصحيح مسلم (٢١٢١) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّه"ُ قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ".
قال النووي: هَذَا الْحَدِيث كَثِير الْفَوَائِد, وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيث الْجَامِعَة, وَأَحْكَامه ظَاهِرَة, وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَب الْجُلُوس فِي الطُّرُقَات لِهَذَا الْحَدِيث.
فنهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الجلوس في الطرقات؛ لأنها مظنة التعرض للنظر المحرم، وارتكاب منهيات أخرى، فلذلك قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإن كان لابد"، فأعطوا الطريق حقه، وذكر من حق الطريق غض البصر.
ويشترك مع الطرقات هذه التي هي مظنة النظر المحرم، الأماكن العامة التي يكثر فيها التفسخ، كبعض الحدائق والأسواق، وللأسف إن كثيراً من المسلمين يتهاونون في هذا الأمر، فيخرجون للنزهة في مثل هذه الحدائق مع علمهم بأنها مليئة بمظاهر التفسخ والانحلال والعري، ثم بعد ذلك يطالبون بالحلول العملية المعينة على غض البصر.
فإن قلت: لكن لا يستطع الإنسان حبس نفسه بالبيت، فلا بد من الخروج لشراء الحوائج، والنزهة، فأقول أولاً: لا بد أن يكون ذلك بقدر الحاجة، ولا يحدث فيه توسع، ثم ليتجنب الإنسان الأزمنة والأمكنة التي هي مظنة الفساد، وبعد ذلك أقول لك كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "فإن كان ولا بُد فأعطوا الطريق حقه ... غض البصر، وكف الأذى".