ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائمًا لطبعه.
ولو رزق من المعرفة حَظًّا وافرًا لعدَّ المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكرًا من حال الكثرة) (٧) .
٦- أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه: وهذا سر بديع يحسن بالعبد أن يتفطن له حال دعائه لربه؛ ذلك أن الله - عز وجل - أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، فهو أعلم بمصالح عباده منهم، وأرحم بهم من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
وإذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرًا لهم من ألا ينزل بهم؛ نظرًا منه لهم، وإحسانًا إليهم، ولطفًا بهم.
ولو مُكِّنُوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا، وإرادةً، وعملاً.
لكنه - عز وجل - تولى تدبير أمورهم بموجب علمه، وعدله، وحكمته، ورحمته أَحَبُّوا أم كرهوا.
فإذا سلَّم العبد لله، وأيقن بأن الملك ملكه، والأمر أمره، وأنه أرحم به من نفسه - طاب قلبه، قضيت حاجته أو لم تُقضَ.
وإذا فوض العبد ربه، ورضي بما يختاره له - أَمَدَّه فيما يختاره له بالقوة عليه، والعزيمة، والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
وهذا يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى.
ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطفُ عليه، واللطف فيه، فيصير بين عطفه ولطفه؛ فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يُهَوِّن عليه ما قدر له.
قال سفيان الثوري- رحمه الله -: (منعه عطاء؛ وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير العبد فمنعه اختيارًا وحسن نظر) . (٨)
٧- أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره: فربما يطلب ما لا يَحْمد عاقبته، وربما كان فيه ضرره، كمثل طفل محموم يطلب الحلوى وهي لا تناسبه.
والمدبر للإنسان أعلم بمصالحه، وعاقبةِ أمره، كيف وقد قال:"وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ" [البقرة:٢١٦] .
ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يقضيه عليه؛ لما يرجوه من حسن العاقبة.
ومن أسرارها ألا يقترح على ربه، ولا يسأله ما ليس له به علم؛ فلعل فيه مضرَّتَه وهو لا يعلم؛ فلا يختار على ربه، بل يسأله حسن العاقبة فيما يختار له؛ فلا أنفع له من ذلك.
(ولهذا من لطف الله - تعالى - لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية، التي يظن بها إدراك بغيته، فيعلم الله أنها تضره، وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهًا، ولم يدْرِ أن ربه قد لطف به؛ حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار) . (٩)