للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي الكريم الحائر، وقاك الله شر الحيرة ونفعك بما علمت، قرأت كلامك كله، وتعايشت مع كل سطر كتبته، بل مع كل كلمة، وكنت في غاية التفهم لمعاناتك، وكنت ألتقي وإياك في بعض المواطن التي تذكرها، وأفترق عنك في مواطن أخرى، أوافقك وجهة النظر في موضع، وأخالفك في مواضع، ومما وافقتك فيه ما أشرت إليه من ضعف كثير من الأحاديث التي تساق في الاستشهاد على هذه المشكلة، ومما وافقتك فيه الرأي أن بعض المعالجات قاصرة وإن كانت من علماء كبار، لكن تعاملهم مع هذه المشكلة لم يكن تعاملاً واقعيًا.

أخي الكريم: لا أحسب أن لدي مزيد علم على ما تعلم حتى أذكره لك، ولكني مشارك لك في علاج هذه المشكلة، أركز ذلك في نقاط محددة:

أولها: مهما قلنا عن ضعف الأحاديث والآثار والأخبار المذكورة في مسألة الشذوذ الجنسي وعمل قوم لوط، فإن دلالة آيات القرآن واضحة، وهي قطعية الثبوت قطعية الدلالة في شناعة وحرمة هذا الأمر، ولذا فلا مجال لفتح نقب في هذا السد العظيم، سد حرمة هذا العمل، وتطريق أي احتمال أو تعذير لهذه الفاحشة.

ثانيًا: أختلف معك أخي في أن هذه المشكلة مما يتعلق بالجينات أو التكوين الخَلْقي للإنسان في أصل فطرته، بل لابد أن لها تأثرًا بأمر طارئ، والدليل على ذلك قول الله -عز وجل- على لسان نبيه لوط -عليه السلام-: "أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين"، فدل على أن هذا الأمر لم يكن موجودًا في تاريخ البشرية قبل قوم لوط، وأنهم أول من مارس هذا الفحش، وأنه أمر طارئ في تاريخ البشر وليس أمرًا موجودًا منذ وجودهم ومصاحبًا لتكوينهم، وإذا كان أمرًا طارئًا فلا بد أنه طارئ لأسباب مؤثرة فيه، ولذا فلا ينفي هذه الحقيقة جهلنا بتلك الأسباب المؤثرة، ولو أنك ذكرت أنك لا تعرفها في تكوينك، فعدم معرفتك لها لا يعني عدم وجودها.

ثالثًا: اعلم أنك تعيش هذا الميل وتجد نفسك أمام مشكلة لا يد لك في صنعها داخل نفسك، وأمام حظر شرعي لا يمكنك بما تفضل الله به عليك من إيمان وعلم أن تتجاوزه، وهنا توجد المجاهدة.

إنه من البدهي أن نعلم، -ولا أحسبك إلا على علم- بأن عفاف وصبر من يجاهد ما تجاهد، ويعاني ما تعاني أعظم أجرًا ومثوبة عند الله -عز وجل- من إعراض من لا يوجد هذا الأمر عنده أصلاً، وهذا الأمر ليس خاصًا بمشكلتك فعفاف الشاب السوي القوي عن الزنى مع قوة الدافع إليه، وقوة المجاهدة في الكف عنه ليس كعفاف العنِّين، أو الشيخ الكبير الذي همدت هذه الجذوة في نفسه، وكل ما ذكرته عن معاناتك ينطبق تمامًا على الشاب السوي الذي يجد الميل إلى المرأة ولا يستطيع الزواج، فإن كان هناك من يمكن أن يعذرك، فهناك من يمكن أن يعذر هذا الشاب بميله إلى المرأة والوقوع في الزنا إذا عجز عن الزواج، وقد قال الله -تعالى-: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا"، فالشاب الذي لا يجد نكاحًا يعيش ذات المعاناة التي تعيشها وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال لأمنا عائشة -رضي الله عنه- في شأن العمرة: "أجرك على قدر نصبك"، فكذلك العفاف الأجر فيه على قدر المجاهدة والنصب، ولذا كان أحد الذين سيظلون بظل العرش يوم القيامة رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>