للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (١).


= وجهه، فخرجت رجلاه فغطى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجهه وجعل على رجليه من الإذخر، ثم قدمه فكبر عليه عشرًا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه، حتى صلى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} -إلى قوله- {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} فصبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يمثل بأحد. خرجه إسماعيل بن إسحاق من حديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس أكمل. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره. وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد.
الثانية: واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فقالت فرقة: له ذلك؛ منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد؛ واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها. وقال مالك وفرقة معه: لا يجوز له ذلك؛ واحتجوا بقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". رواه الدارقطني وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى.
ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر؛ فاستشار ذلك الرجل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأمر فقال له: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك". وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك، وهي رذيلة لا انفكاك عنها، فينبغي أن يتجنبها لنفسه؛ فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن اللَّه حكم له؛ كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة، نسختها {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}.
الثالثة: في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص؛ فمن قتل بحديدة قتل بها. ومن قتل بحجر قتل به، ولا يتعدى قدر الواجب، وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى. والحمد للَّه.
الرابعة: سمى اللَّه تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب ديباجة القول، هذا بعكس قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: ٥٤] وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: ١٥] فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة؛ قاله ابن عطية".
(١) قال القرطبي في جامعه (٢/ ٣٥٦، وما بعدها): "الخامسة: قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} عموم متفق عليه، إما بالمباشرة إن أمكن، وإما بالحكام. واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانا أم لا، فمن قال: ليس في القرآن مجاز، قال: المقابلة عدوان، وهو عدوان مباح، كما أن المجاز في كلام =

<<  <  ج: ص:  >  >>