فإن قيل: لم بدأ اللَّه بالوصية قبل ذكر الدين؟ قلنا: في حكم البلاغة أن يقدم ما يجب الاعتناء بشرحه وبيانه وأداء الدين معلوم وأمره بين لأنه حق للغرماء ومنعهم منه ظلم ظاهر فبدأ بما يحتاج إلى بيانه وقد قال سيبويه إنه يقدم في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم. ووجه آخر وهو أن الوصية طاعة وخير وبر يفعله الميت والدين إنما هو لمنفعة نفسه وهو مذموم في غالب أحواله وقد تعوذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكفر والدين فبدأ بالأفضل وما يقدم في ترتيب الكلام فقد يكون لقبلية الفضل نحو قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحو قوله ٦ من النبيين والصديقيين وقد يكون لقبلية الزمان نحو قوله: نوحًا وإبراهيم وقد يكون لقبلية الترتيب نحو تقديم اليهود على النصارى في الذكر لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين في الدار وقد يكون تقديمهم في اللفظ لقبلية الزمان لأن التوراة قبل الإنجيل وموسى قبل عيسى وقد يكون تقديم الصلاة قبل الزكاة من قبلية الرتبة لأنها حق البدن والزكاة حق المال والبدن في الرتبة قبل المال. ومن وجوه القبليات أيضًا السبب والمسبب كالمرض والموت في حكم البلاغة كما روي أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ واللَّه حكيم عزيز والأعرابي لا يحفظ القرآن فقال الأعرابي ما أراها أنزلت كما تقول فقال القارئ واللَّه عزيز حكيم فقال الأعرابي نعم عز فلما عز حكم. فاجعل هذه القبليات أصلًا في معرفة الحكمة والإعجاز في كتاب اللَّه فإنه لا تقدم فيه صفة على أخرى ولا شيء على شيء إلا بقبلية من هذه القبليات فترتب الألفاظ في اللسان على حسب ترتيب المعاني في الجنان فتدبره واللَّه المستعان".