فهذا الوجه مخدوش على الحالين، على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالًا؛ إذ قد ورد في الصحيح شفاعته -صلى اللَّه عليه وسلم- لعامة الناس من هول الموقف. . وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة، وكون الكفار في الأول تبعًا غير مقصودين، كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه، فليس ذلك رحمة في حقهم. والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها، فليس رحمة من كل الوجوه، ليس بشيء: أما أولًا: فلأن القصد تبعًا وأصالة لا مدخل له. وأما ثانيًا: فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذاك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من اللَّه تعالى لكافر في الدنيا، كما قد قيل به لقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨)}، وقوله تعالى: {وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا}، فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا؛ إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة، وما يكون له في الآخرة، فوراء كل عذاب شديد. وأما ثالثًا: فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه، لا يضر، وكل أهل النار يتمنى التخفيف: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩)}، وحنانيك بعض الشر أهون من بعض. وأما ثامنًا: فلأن قولهم: وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة إلخ، فيه بعض شيء، وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول؛ لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة، نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوًا، ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية؛ إذ المراد يا موليًا لجسام النعم في الدارين، ولما دونها في الدنيا. وأيضًا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها، مشيرًا إلى عموم الأول وخصوص الثاني، ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمريد شكره، إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف، والمعروف المرفوع: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما"، وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء، كما لا يخفى".